لو رُبّي المواطن في صغره¡ في أسرته ومدرسته¡ على حرية التعبير¡ وحق الآخرين فيه¡ ومُنع من التطاول عليهم¡ والسخرية بهمº لحللنا بحول الله كثيرا من تحدياتنا التي تواجه مجتمعنا¡ وتجعله عرضة لاستغلال الأعداء¡ وسعيهم بالوقيعة بيننا..
ربما لا يتعلّم المواطن حرية التعبير في أسرته¡ ولا يجدها في بيئته التعليمية الأولى¡ وربما أيضا تنقضي سنوات الجامعة¡ وهو لم يجد عبرها تجسدا حقيقيا لهذه الخصلة الضرورية¡ يُعينه على إصلاح نفسه¡ ويسمح له باستغلال عقله¡ ومتى انقضت زهرة العمر¡ ومضى عنفوانهº فمن المرجح أن المرء سيظل رهينا لتلك الحقبة الذهبية من عمره¡ تظهر على سلوكه¡ ويُنبئ عنها عمله.
في كثير من الدراسات اتضح أن الإنسان في معظم ملكاته¡ إن لم يكن كلها¡ مرهون بفترات عمره الأولى¡ ومحكوم عليه بها¡ ولن يستطيع بعدها أن يمهر في شيء¡ ويأخذ حقه منه¡ يصدق هذا على مهارته في كرة القدم¡ وإجادته للرماية¡ وإحسانه للغة قومه¡ وهي كلها مهارات غير عقلية¡ يرجع إتقانها والبروز فيها إلى أن يبدأ بها الإنسان صغيرا¡ ويُحاولها إبّان غضاضته¡ ويندفع إليها وقت مَيْعته¡ ومتى ذهبت عليه تلك المرحلة¡ ولم يأخذ نفسه بتلك المهاراتº فقد فاتته الفرصة¡ وشردت عنه المهلة¡ وبعُد عنه ما كان قريبا منه¡ ولو عزم بعد ذلك على تلافي ما فاته¡ وتدارك ما ذهب عنهº فسوف يبذل من الجهد أضعاف ما بذله¡ ويستغرق من الوقت ما لم يحتج إليه¡ كل هذا يجري¡ وأحسبنا نشاهده في واقعنا¡ ونحن نتعلّم مهارات مادية محسوسةº كالكتابة بالقلم¡ والضرب على أحرف الحاسب¡ واللعب بالكرة¡ فكيف هي حالنا إذا جئنا ننظر إلى اكتساب مهارات معنويةº كمهارات التفكير¡ ومهارات الحوار¡ ومنها حرية التعبير¡ أَنحن قادرون على نيل ما نريد منها دون أن نتلقّاها في الصغر¡ وننشأ عليها في السنوات الأولى¡ ونراها أمامنا في باكورة أعمارنا¿
من المستبعد أن نحصل على شيء من المواطن في كبره¡ ونحن لم ننله منه في صغره¡ وهذا معنى تومئ إليه الدراسات حول اللغة مثلا¡ وهو قول قديم شهير "من شبّ على شيء شاب عليه"¡ ومصداقه في حياة كل واحد منا أوضح وأقرب¡ ومما يُروى في كتب الأدب¡ ويجمل إيراده هنا¡ قول أحد الشُّراة (الخوارج) للخليفة العباسي المنصور:
أتروضُ عِرْسَكَ بعد ما كبرتْ
ومن العناءِ رياضةُ الهرِمِ
لقد أصبح الشطر الثاني (ومن العناءِ رياضةُ الهرم) مثلا عربيا¡ تُورده كتب الأمثال¡ ونقرؤه فيها¡ ونردده في مجالسنا¡ وبقي علينا أن نستلهم منه العبرة¡ ونأخذ منه الفائدة¡ ونهجم على الطفولة¡ ونُعدّها لما نُريده منها في الشباب والهرم¡ ولا ننتظر المواطن أن يتحلّى بشيء في عمره المتقدمº لم نُعنه عليه في صغره¡ ونُهَيّئ له بيئته¡ ويُنتظر من مؤسسات التعليم الأولي أن تُشارك في هذه الإعانة وتلك التهيئة¡ وتختبر هذه الخلال الكريمة في المواطنين¡ وتجعل جزءا من همها فيها¡ فذاك أسهل الدروب إلى التربية¡ وأقل الطرق كلفة فيها¡ ومَنْ يفوته استغلال هذه الحقبة العمرية¡ ويذهب عليه الانتفاع منها¡ سيعرف حقا معنى قول الأولين: من شبّ على شاب عليه¡ ويُدرك الفكرة العميقة لقول الشاعر: ومن العناء رياضة الهرم¡ وإدراك المؤسسات في الدول لهذه المعاني سيكون أبلغ وأعظم¡ والمثل¡ وإن لم يُقل لها بداية¡ والبيت الشعري¡ وإن لم يُخاطبْها به الشاعر¡ هي المعنية بهما¡ والمتضررة من إهمالهما¡ ومتى اجتهدت المؤسسات التعليمية في استغلال فترة الطفولة¡ ووعت أنها الفرصة الذهبية لغرس ما تحب¡ وبذْر ما ترى¡ وأن فوات ذلك عليهاº سيضطرها لاحقا إلى استدراك ما يصعب استدراكه¡ وتحصيل ما يُكلّف تحصيلهº فسوف تأخذ للأمر أهبته¡ وتبذل له ما هو حقيق به.
فترة الطفولة هي المرحلة الذهبية للتربية¡ المرحلة التي يكون فيها الإنسان فارغا من كل شيء¡ هيّنا ليّنا في تقبّل ما يُلقى إليه¡ ويُساس عليه¡ يسهل أن تجعل منه ملاكا في رؤيته للآخرين¡ ويخفّ عليك أن تُصيّر منه شيطانا¡ يتربص بالآخرين الأذى¡ ويسومهم العذاب¡ وهي حقبة تحكم مستقبل الإنسان¡ ويعسر عليه الخروج منها دون آلام مبرحة وجراح غائرة.
لو رُبّي المواطن في صغره¡ في أسرته ومدرسته¡ على حرية التعبير¡ وحق الآخرين فيه¡ ومُنع من التطاول عليهم¡ والسخرية بهمº لحللنا بحول الله كثيرا من تحدياتنا التي تواجه مجتمعنا¡ وتجعله عرضة لاستغلال الأعداء¡ وسعيهم بالوقيعة بيننا¡ وما أحسن ما قال الأستاذ أرسطو عن تربية النشء: "من واجبات المشترع أن يُقصي الكلام السفيه عن الدولة¡ إقصاءه عنها شرا من الشرور الأخرىº لأن سهولة النطق بقباحة من القباحات تجعل اقترافها أمرا دانيا¡ فلا بد من حظر الكلام السفيه¡ خصوصا على الأحداث"¡ وليس أقبح في الأسماع من حرمان الآخرين أن يقولوا ما عندهم¡ واضطرارهم تحت لهيب الكلمات أن يسكتوا.
وفي الختام أدعو مركز الحوار الوطني أن يؤسس شراكة مع التعليم والتعليم الجامعيº حتى يصبح الحوار جزءا رئيسا من شخصية المواطن¡ فلا يغضب حين يحاور ولا يخرج عن طوره حين يُخالفº فالذي أشاهده في وسائل التواصل¡ من كثرة الاختباء وراء المعرفات¡ واستخدام بعض المشاهير حال الطوارئ لها¡ وعزوف كثيرين عن الحوار¡ واكتفائهم بطرح الرأي والبوح بهº يدل كله على أن حرية التعبير لم تتوطن بعد¡ وأنّ كبر السن لا يُدفع إليها¡ وأننا ما زلنا غير قادرين على الانتفاع من أفكار غيرنا¡ وأقرب حلول هذه المسألة وأيسرها هو التوجه إلى الطفولة¡ وترسيخ مبادئ الانفتاح فيها¡ وتمكينها منها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...