كانت أميركا¡ وهي الآن دولة الحرية والحقوق¡ قبل سبعة عقود بلدا يُضطهد فيه اليهود¡ وتُسنّ لهم فيه القوانين المستقلة¡ والأنظمة المختلفة¡ وهم إذ ذاك مواطنون أميركيون¡ لا يختلفون عن أهل تلك البلاد إلا بانتمائهم الديني¡ واختيارهم العقدي. ولم تمض بأميركا الأيام حتى أصبح اليهود مساوين لغيرهم في الحقوق والواجبات¡ وأضحى اختلافهم الديني¡ وانتماؤهم التاريخي¡ لا يُغيّر شيئا من نظرة الدولة إليهم¡ ولا يسمح للمجتمع¡ والمسيحية أغلبية فيه¡ أن يُمارس أي اضطهاد عليهم¡ وصار لليهود طرائق نظامية تسمح لهم بالتظلم¡ وقوانين تضمن لهم ذلك الحق¡ وانتهت أميركا بهذا إلى دولة تُحارب فرز شعبها¡ وتقف في وجه الفارزين¡ فكانت وجهة كثير من البشر¡ اختلفت أديانهم ومذاهبهم¡ واجتمعت هِممهم على خدمتها والوقوف معها¡ ففازت تلك البلاد بعقول خيّرة جلبتها الهجرة¡ وساعد عليها ضمان الحقوق¡ فقادت أميركا العالم وأصبحت سيدة له¡ ولو بقيت تضطهد المختلفين دينياً وتُقصيهم¡ وتُقيم المفارز النظامية والاجتماعية لهمº لما كانت على حالها التي هي عليها اليوم.
قصة اليهود في أميركا واقع حكاه شفيق جبري في كتابه "أرض السِّحر"¡ وهو أستاذ سوري أجاب دعوة حكومة الولايات المتحدة هو ولفيف من رجالات الشرق¡ وكان غرض الدعوة أن يتعرف هؤلاء الشرقيون على أهل أميركا ويناقشوهم في القضايا التي تشغلهم¡ وكان من قصة اليهود قول شفيق: "ثم جاء ذكر اليهود¡ فقالت السيدة تمسن: إن بعض الفنادق والأندية لا تستقبل اليهود¡ وبعض الجامعات تُحدد عددهم فيها" (155)¡ وبلغت هذه القصة أوجها حين ظن شفيق قائلا: "لا أشك في أن الأميركان يكرهون اليهود¡ وإني أشعر شعورا شديدا بأنه سيأتي يوم يُصيب اليهود فيه ما أصابهم في ألمانية على يد هتلرº لأن ثقل ظلهم في الولايات المتحدة لا يُطاق" (192).
فرز الشعوب والتفريق بين أفرادها¡ ما كان سببه¡ يُوهن طاقاتها¡ ويُضعف جبهتها الداخلية¡ ويُنفّر الآخرين منها¡ والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أدرك آثار الفرز بين القاطنين بها¡ والساكنين لها¡ ووعى بوضوح الآثار التي ستقع على دعوته الكريمة حين يجعل شعب المدينة متفاوتين في الحقوق ومختلفين في المكانة..
لم يقع في تأريخ أميركا ما قطع به شفيق جبري¡ ولم يأت على اليهود في أميركا ما جرى لهم في ألمانية¡ بل سارت الولايات المتحدة سيرة مختلفة¡ وقطع الشعب شوطا حقيقا بالتقدير¡ ولعل شفيقا قال ما قاله مدفوعا بكراهيته لليهود التي بدت منه في أول كتابه حين طالب باسم العرب رئيس المؤتمر أن يُقصي الأساتذة اليهود¡ ويحول دون حضورهم للمؤتمر¡ وهم أساتذة في تلك الجامعة والجامعات الأميركية (23 وما بعدها)¡ وما من ريب أن شفيقا والعرب الذين كانوا على رأيه أحبّوا أن يدفع اليهودي الأميركي ثمن ما فعله اليهود في فلسطين¡ وتلك سبيل لم يرتضها الأميركيون الذي جاءوا بعد شفيق¡ فأخذوا دولتهم ومجتمعهم في دروب أخرى¡ لم يكن في بال الرجل أن يُصدّق ذهابهم فيها¡ والتجاءهم إليها.
تأريخ أميركا المتقدم قادني إلى ذكره¡ ودفعني إلى استحضاره¡ حديث خادم الحرمين في القمة أمام رجال أربع وخمسين دولة¡ حين قال حفظه الله ذخرا للإسلام والمسلمين: "إننا جميعا شعوبا ودولا نرفض بكل لغة¡ وندين بكل شكل الإضرار بعلاقات الدولة الإسلامية مع الدول الصديقة¡ وفرز الشعوب والدول على أساس ديني أوطائفي" فالتقطت من حديثه الكريم مركب "فرز الشعوب"¡ وعنونت به مقالي¡ واخترت أميركا حتى أعرض سيرة حديثة من سير المجتمعات في محاربة الفرز¡ وأُشارك بمقالي هذا في الثناء على هذا الشعب الذي قال لنا رئيسه: "وإنني أتشرف بهم في هذا البلد المضياف الرائع الذي طالما سمعت عن روعته وعن روعة مواطنيه¡ ولكن الكلمات لن تفيكم حقكم¡ ولن تفي حق هذا البلد الرائع العظيم" (جريدة الرياض¡ 17864) فأردّ بمثل ما قيل لنا¡ وأُذكّر بما يجدر التذكير به من سيرة ذاك الشعب.
فرز الشعوب والتفريق بين أفرادها¡ ما كان سببه¡ يُوهن طاقاتها¡ ويُضعف جبهتها الداخلية¡ ويُنفّر الآخرين منها¡ والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أدرك آثار الفرز بين القاطنين بها¡ والساكنين لها¡ ووعى بوضوح الآثار التي ستقع على دعوته الكريمة حين يجعل شعب المدينة متفاوتين في الحقوق ومختلفين في المكانة¡ فأسس ما عُرف في تأريخنا بـ(صحيفة المدينة)¡ وهي دستور مدني¡ لا يُفرّق بين الناس بالدين ولا المذهب¡ وإنما يُفرّق بينهم في خدمة مجتمع المدينة والنصح لأهله¡ فكان من بنود تلك الصحيفة: "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين¡ لليهود دينهم¡ وللمسلمين دينهم¡ مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثمº فإنه لا يُوتِغ (يُهلك) إلا نفسه.. وأن بطانة يهود كأنفسهم.. وأن على اليهود نفقتهم¡ وعلى المسلمين نفقتهم¡ وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة¡ وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم" (محمد الجميل¡ النبي ويهود المدينة¡ 295 وما بعدها).
بهذه الجمل "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين¡ وأن بينهم النصح والنصيحة" حارب الرسول صلى الله عليه وسلم التفرقة بين قاطني المدينة¡ وسعى إلى حماية شعبها المختلف من التطرف الذي يقود إلى الإرهاب ويدفع إليه¡ وعلى هذه السنة النبوية الجليلة مضى خادم الحرمين الشريفين معلنا عن تأسيس (المركز العالمي لمكافحة التطرف)¡ ومن مظاهر التطرف التي ذكرها في خطابه "فرز الشعوب والدول على أساس ديني أو طائفي"¡ فبارك الله في جهوده¡ وسدد على طريق الهدى خطاه¡ وأعان شعبنا الكريم على تحقيق دعوته وآماله.




http://www.alriyadh.com/1597712]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]