[align=center]توترت أعصابه ( كعادته عندما يشاهد نشرة الأخبار ) فمن ذل إلى ذل و من تنازل إلى آخر - - - و الشاشة اعتادت على الجثث المتناثرة هنا وهناك أراد الراحة و لكن عينيه لم تهباه النوم- - -

قام إلى سجادته الحبيبة خرج إلى الحديقة - - - قطف من عنقود العنب المتدلي حبة شهية ملأت فمه وحلقه حلاوة حمد الله ثم شغل النافورة و توضأ بالماء البارد ¡ بدأ يحس الراحة ولمست السكينة جدران قلبه - - - مد سجادته باتجاه القبلة ¡ نظر إلى بعيد و كأن السجادة ستصل إلى الكعبة - - - صدح بتكبيرة الإحرام ---

أخذ يرتل و يرتل ¡ يسبح في أجواء القرآن و يستظل ظلاله و يتذوق حلاوة الإيمان ¡ دخلت السكينة و استقرت في قلبه و روحه --- تناثرت حوله في الفضاء معاني الوجود لتنغرس بين أضلاعه معنىً معنى ¡ و ابتهل بين يدي ربه يسأله التوبة والغفران ¡ و بينما هو كذلك إذا بصور الأطفال الممزقين تداعب مخيلته --- ارتجفت يداه وتقطع صوته و بكل حرقة وصدق أخذ يدعو :

اللهم انصر إخواننا في فلسطين --- اللهم ارحم إخواننا في العراق ---

احمرت عيناه فقد تذكرتا هما أيضاً معاناة الأطفال فسالت منهما دمعة --- كبرت الدمعة شيئاً فشيئاً و ثقلت ولكنها لم تسقط على الأرض و إنما طارت في الهواء ---

و فجأة ! تحولت إلى مخلوق عجيب --- نظر إليه بذهول شديد ¡

كان طفلاً من الذين رآهم في نشرة الأخبار ¡ و قد نبت له جناحان أبيضان أخذ يرفرف بهما و يطير أمام ناظريه في الفضاء الرحب ¡ ثم اقترب منه و رمقه بابتسامة ساحرة ¡ وجهه --- كان شديد البياض ¡ و خصلٌ من الشعر الأشقر تتدلى على جبينه ---

ها هو يقترب أكثر فأكثر منه --- ضمه إلى صدره ¡ طبع الولد على جبينه قبلة نفخت في جسده الحياة

و قال له يصوت وادع رقيق :

شكرا ً لأنك تذكرتني --- لمح جرحاً تحت جناحه ينز دماً فخاف عليه ¡ أخرج منديلاً يريد تجفيف الدم¡

فقال له الطفل : اتركه ! إني فخور به --- ثم طار من جديد ¡ صرخ بكل ما أوتي من قوة :

لا تذهب --- ابق بقربي سأعتني بك- - -

أجابه الطفل : إن رفاقي ينتظرونني .

أين ¿!

هناك --- و أشار إلى بعيد .

نظر الرجل فإذا بمجموعة من الأطفال المجنحين في الأفق يرقصون و يغنون ثم انضم إليهم صديقه وغابوا عن بصره .
أحس الرحل بهم كبير عاد فجثم على صدره و بدأت تدغدغ ذاكرته صور النساء اللواتي كن يبكين أطفالهن --- لقد أثارت هذه الذكريات شجونه من جديد فرفع يديه مبتهلاً :

اللهم صبر ثكالى المسلمين ¡ اللهم تولى أرامل المسلمين ¡ اللهم ارحم شهيدات المسلمين .

و ترقرقت من عينيه دمعة أخرى ¡ سقطت على السجادة محدثة فيها بقعة --- نظر إليها --- و إذا بطيف يخرج منها ¡ ابتعد إلى الخلف خائفا ً--- كان شعاعاً من نور أبهر بصره --- ثم خفت النور و بدأت تتضح ملامح الطيف ---

يا الله ! ما هذا ¿!

حسناء تتجلى في ضحكتها معاني الطهر والجمال ¡ كانت تلفح وجهها بشال زهري يزيدها ألقاً و روعة ¡ تقدمت نحوه بخطوات قليلة - - ترفع قدماً بيضاء و تحط أخرى و كأنها تمشي على روحه فتسحقها شيئاً فشيئاً و النور يخرج من كل جزء فيها --- ها هي تنظر إليه بعينيها الساحرتين ---

لم يعد يتمالك نفسه ¡ انهارت كل أعصابه --- فتح ذراعيه يريد معانقتها --- ارتسمت على وجنتيها دائرتان حمراوان خجولتان --- لم تتكلم إلا بكلمتين واختفت --- لم يلمسها حتى ¡ قالت :

موعدنا في الجنة ¡ و لم يعد لها أثر .

تصارعت الأخيلة والذكريات و الأفكار في ذهنه حتى كاد رأسه ينفجر ¡ ومن غير وعي أو تدقيق أخذ يدعو بأدعية مختلفة ¡ كلماته لم تكن متعانقة وجمله لم تكن مترابطة ¡ و فجأة ! خرجت دمعة متمردة ---

لم تكن وديعة كالطفل ¡ لطيفة كالحسناء ¡

بل كانت رجلاً صنديداً أمسك بتلابيبه و ضغط على صدره بقوة ! ¡ خاف كثيراً - - - - - -

لماذا ¿! ماذا فعلت ¿!

فجاء الجواب حاداً كالسيف واضحاً كوضوح الشمس :

أيام وشهور و أنت تبكي و تبتهل ¡ حبذا لو كانت أيامك عمل ودعوة و جهاد لكانت دموعك أكثر بياضاً و دعاؤك أكثر صدقاً ---

ماذا قدمت لدينك و وطنك ¿! دموعاً فارغة ! أليس كذلك ¿! اجعل من كل كلمة دعوةً لله --- و لتكن كل دمعة ثورة !
[/align]