هناك ملمح خطير نلاحظه لدى البعض ممن يدعون أنهم محدِّثون للفكر ومجددون¡ وهم بلا شك من الفئات المستهدفة¡ يُسفهون التراث¡ ويشككون فيه مما يهز الثقة في موروثنا الثقافيº وبالتالي نواجه موجة عنيفة لهدم هذا التراث والنظر بنظرة دونية لكل كنوزنا الفكرية..
للكلمة شرف¡ وللكلمة ميراث¡ وللكلمة عهد¡ ولها مواثيقº تغدى عليها الضبط الاجتماعي والثقافي¡ وهو ما جعل الجزيرة العربية برمتها ثابتة الأركان مهما اهتزت الأرض من حولها. فهل حافظنا على هذا الميراث¡ وهل استطاعت المجتمعات العربية الإمساك بزمامه¡ بالرغم من هذا الطوفان العولمي والمابعد حداثي¡ والذي من أولى درجاته محو الانتماء لكل ما هو تاريخ ولكل ما هو تراث!
والأمر لا يحتاج إلى توضيح لأنه بات واضح المعالم لكل من حمل بين كتفيه رأساً¡ ولكننا لن نتجاوز ما سمي بالتفكيك ونظرية جاك دريدا الذي "صدم الفكر الغربي قبل أن يصدم الفكر العالمي¡ بسبب ما تحمله أفكاره من أبعاد تثويرية تنسف أساس الوعي وثوابته المركزية لا سيما تلك التي تتعلق بالكتابة والمرأة والتاريخ والعقل" على حد قول الكاتبة نادية هناوي في مقالها "الخلخلة" "والفكفكة".
وهو ما يجرنا بدوره إلى هذا المعنى (التفكيك) الذي ينقل المصطلح من معناه الآلي إلى الواقع الاجتماعي والوعي القومي¡ والثقة بالموروث الذي يعد في الدرجة الأولى من تكوين الهوية العربية كحضارة وعادات وتقاليد. جميعها باتت في مهب الريح فاهتزت الثقة بها إلى حد ما عند البعض غير عميقي الثقافة¡ ذلك بعد ظهور هذا الفكر الفلسفي الذي تسرب طواعية أو قسراً إلى الوعي المجتمعي والثقافي والحضاري أيضاً! وهو مطلب صريح من مطالب ما بعد الحداثة كفكر فلسفي أضحى مسيطرًا على بعض العقول المتثاقفة¡ مرده الثقة في كل ما هو قادم أو مستوفد وباللغة الشعبية يطلقون عليه (عقدة الخواجة)! ولذلك أصبح الوافد والتابع لمطلب هدم التاريخ والهوية والتراث¡ هو هدم كل ما هو (كاريزما) وهو طابع تثويري وجدناه يجتاح جل المجتمعات العربية وهو ما سبب هذه القلاقل (الهدم)! فإذا ما كان المثل المصري يقول¡ وهو من صلب الموروث: (اللي مالوش كبير يشتري له كبير) - وهو أداة من أدوات الضبط الاجتماعي إن جاز لنا التعبير - إلا أنه لم يعد لكل صغير كبير.
وفي ضوء هذا العصف الذهني المستوفد من نظرية الفكفكة والخلخلة وجدنا أنه لم يعد لهذه الأداة المتجاوزة الحدود (وسائل التواصل الاجتماعي) قراءة فكرية¡ أو ما يسمى بـ(الذهنية الناقدة)¡ لنجد كل القبح وكل الانفلات اللفظي وكل ما لا يليق بالشخصية العربية وموروثها الذي وضعها بين الأمم شخصية بارزة كتكوين شخصي أو حتى فكري على مر العصور¡ فلو عرفها هؤلاء لما قذفوا بكل ما هو قميء ومقزز على صفحات باتت عالمية قبل أن تكون محلية أو عربية!
في لحظة تأمل تساءلنا: لماذا احتفظت المملكة ودول التعاون الخليجي ومصر أيضاً باستقرارها¿ ذلك بالالتفاف حول حكامها ورجال دولتها¡ فاستقرت أمام هذا الطوفان الفكري الغربي¡ فتماسكت¿ لأن الدولة اهتمت بإيقاظ الوعي¡ فاتضح أن الشخصية هنا قارئة مثقفة مستقرة الرأي واثقة في قادتها وهو ما كون سداً منيعاً في وجه هذا الطوفان الذي أطاح بمعظم الدول العربية¡ كما أنها شديدة الحب والثقة لحكامها لأنها تقرأ ولأنها تكتب - على مستوى الجنسين - على غير ما يقال¡ وهذا يحسب للثورة الثقافية والإعلامية وإلى إيقاظ الوعي الجمعي وبشراكة شفافة واضحة لا تحتمل الشك¡ كما أن للضبط الاجتماعي والأعراف المتوارثة والتراث دوراً كبيراً في ذلك.
وبما أن الفكر الجديد (ما بعد الحداثي Postmodernism) يدعو بلا شك إلى هدم كل ما هو كاريزما في البناء الاجتماعي¡ فإذا ما كانت البنية الاجتماعية تتكون من (مركز وسلطة نائبة وقوة صاعدة والقاعدة البنائية) فإن اختراق البنية الاجتماعية نحو المركز لا يتأتى إلا بالقوة الصاعدة بحسب نظريات علم الاجتماع¡ فأصبحت هي المستهدفة للخلخلة والهدم¡ فإن التماسك وتلك القوة في الدول التي ذكرناها سلفاً يرجعان أيضاً إلى أن هذه (القوة الصاعدة) لا يشغلها إلا الصعود نحو العلم والتنوير وتماسك البناء الاجتماعي - وهو ما يسمى بـ(الوعي الجمعي) - وذلك بالالتفاف حول حكامها وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي¡ مما أسبغ على الدولة قوة واستقراراً في وجه هذه العواصف وتلك التدخلات ومحاولات الاختراق¡ كما أن للتمسك بشرف الكلمة والوعد والعهد - وهو أغلى ما يميز الشخصية القبلية - دوراً كبيراً في هذا الاستقرار¡ فهي حديثة العهد بالماضي القريب بما يحمله من التراث القبلي¡ فلم تستطع تلك الرياح هزها.
لكن هناك ملمحاً خطيراً مأخوذاً عليه ونلاحظه لدى البعض ممن يدعون أنهم محدِّثون للفكر ومجددون¡ وهم بلا شك من الفئات المستهدفة¡ يُسفهون التراث¡ ويشككون فيه مما يهز الثقة في موروثنا الثقافيº وبالتالي نواجه موجة عنيفة لهدم هذا التراث والنظر بنظرة دونية لكل كنوزنا الفكرية من مخطوطات ومن مقتنيات فكرية تستند عليها الكلمة¡ فإذا ما كانت الكلمة شرفاً¡ وهي أغلى ما يمتلك الفرد منا لمواجهة كل ما هو دخيل على تكوين الشخصية ذاتها¡ كان يجب الحفاظ عليها¡ لاستقرار ثقافتنا¡ التي لها بريقها الذي نتفرد به أمام كثير من دول العالم المتمدن واستخراج منها ما يتواءم مع مستقبل جديد¡ قوي¡ ومؤثر في المحيط المحلي والعالمي أيضاً¡ دون تبعية فكرية مقيتة.




http://www.alriyadh.com/1763013]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]