معلومٌ أن كُلَّ هذه التحريشات سيئةُ الأثر في كُلِّ زمان ومكان¡ لكن شؤمها تضاعف بظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي هيّأت من وسائل النقل ما لم يكن موجوداً من قبل¡ فلم يكن متاحاً من قبل أن يَنِمَّ لك من لا يُجالسك¡ ولا أن ينقل لك القالةَ في لحظات
للبعثة المحمدية المباركة على هذه الأمة آثارٌ حسنةٌ لا تُحصى¡ ومن بين هذه الآثار ما شكّلته من إرغامٍ وإغاظةٍ للشيطان¡ فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون¡ ولكن في التحريش بينهم»¡ أخرجه مسلمٌ وغيره واللفظ للترمذي¡ ولا شكّ أن الشيطان أوضع بين صفوف المسلمين في التحريش بدءاً من فتنة مقتل عثمان رضي الله¡ وفتنة الخوارج الحرورية المارقين¡ وما ترتّب على ذلك من الويلات والشبهات والتفرّق¡ وما زالت الأمة الإسلامية تُعاني من تبعات ذلك¡ ولئن كان التحريش الحاصل بين الأمة بعد نشوء هذه الفِرَق أخطر وأكثر سلبية¡ إلا أن هناك أنواعاً من التحريش أضيق دائرة¡ وأكثر انتشاراً¡ ألا وهو إفساد العلاقات داخل المجتمع الواحد¡ والأسرة الواحدة¡ وهو الذي يُمهّد الطريق للواسع الأعمّº لأن الأسرة هي لبنةُ بناءِ المجتمع¡ والمجتمع لبنةٌ في صرح الأمة¡ وإذا كان اللبِنُ هشّاً ركيكاً أوشك البناء أن يتهاوى¡ واستحال تماسكه¡ وللتحريش الاجتماعي صورٌ منها:
أولاً: نقل النمائم بين الأفراد¡ ومعلومٌ أن النميمة من شأنها أن تقضي على الأُلفة والعشرة الحسنة كما تقضي النار على الهشيم¡ بل هي الوسيلة الناجعة التي لا يُفرِّطُ في استعمالها المغرضون¡ والحطب الذي ينفخ فيه المفسدون¡ وقد فسّر بعض المفسرين قوله تعالى: (حَمَّالَة الحَطَبِ) بأنها تمشي بالنميمةº ولآثار النميمة السلبية كانت من الكبائر¡ وورد فيها من الوعيد الشديد ما هو معروف¡ والسبيل الأمثل للتقليل من آثارها التواصي بالكفِّ عنها¡ والتناصح في عدم نقل الكلام إضافةً إلى الامتناع من الاستماع إليها¡ وأن يكون المرء ذكيّاً يَقِظَاً لا يغترُّ بالنمّامين¡ ولا يفسح لهم المجال لإِيغارِ صدره¡ وأن يمتلك الشجاعة لأَنْ يُصارحَ النمّام بأن فعلته شنيعةٌ غيرُ مُستساغةٍ.
ثانياً: إذكاء المشاحنات المفتعلة المبنية على أُسسٍ وهمية¡ فقد يُفسِدُ أحد الأصدقاء العلاقة بين آخرين بإظهار العناية المزيّفة بأحدهما على حساب الآخر¡ وقد يحصل ذلك بين زملاء العمل¡ وأخطره ما يحصل داخل الأسرةº ولأجلِ حِرصِ الإسلام على تحسين علاقات الإخوة منع الوالدين من إيثار أحدهم بشيء¡ فعن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما¡ قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله¡ اشهد أنّي قد نَحَلْتُ النعمان كذا وكذا من مالي¡ فقال: «أَكُلَّ بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان¿» قال: لا¡ قال: «فأشهد على هذا غيري».
ثالثاً: استعراض المزايا أمام الآخرين: فبعض الناس يستعرض أمام غيره مميزات حَظِيَ بها عند غيره¡ وهي مرغوبةٌ تتشوّقُ إليها القلوب¡ ولا يقصد بذلك مجرّد المباهاة والتفاخر المذمومين¡ بل وراء ذلك غرضٌ أسوأº لأن فيه ضرراً مُتعدِّياً ألا وهو إثارة الغيرة لدى نظرائه¡ كأن تُباهي الزوجة أمام قريناتها بمزايا مرموقةٍ أغدقها عليها زوجها بغية أن تُشعرَ الآخريات بأنهُنَّ محلُّ إهمالٍ وتقصيرٍ¡ فَيَجِدْنَ في أنفسهم على أزواجهن¡ ويستشعرن عدم الأهمية¡ ويحصل ذلك للأولاد¡ ولشركاء العمل¡ فربّما تسبّبَ أحد المباهين بتخلِّي غيره عن وظيفته¡ أو شراكته التي لم ينل بها ما نال المباهي بنظيرتها.
رابعاً: التحريش بين مُكوّنات المجتمع بالتفرقة والتقسيمات التي تُفرِّقُ ولا تجمع¡ وتهدم ولا تبني¡ وهذا من أخطر أنواع التحريش¡ وقد حاربه الإسلام وحضَّ على التخلّي عنه¡ وشدّد على إشاعة الأُخوّةِ وتقوية التلاحم¡ وبعض الناس يُسْهِمُ في هذا من حيث لا يشعر بنقل خلافاته القديمة المندثرة إلى أولاده¡ وإطلاعهم من ذلك على ما لو سكت عنه لم يخرج إليهم¡ ولم يبنوا عليه حزازاتٍ وسوءَ علاقة مع الآخرين¡ وغاب على هذا أن الأفضل أن يُطهِّرَ قلوب ذريته من مناكفاتٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل¡ وأنّه فوّت عليهم من الطمأنينة والانشراح ما لا يُعوّضُ.
وختاماً: معلومٌ أن كُلَّ هذه التحريشات سيئةُ الأثر في كُلِّ زمان ومكان¡ لكن شؤمها تضاعف بظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي هيّأت من وسائل النقل ما لم يكن موجوداً من قبل¡ فلم يكن متاحاً من قبل أن يَنِمَّ لك من لا يُجالسك¡ ولا أن ينقل لك القالةَ في لحظات¡ وصار الآن مُتاحاً¡ وقديماً لا يُتاحُ أن يستفزَّ المباهي عن بُعدٍ مشاعر الآخرين بما أُوتي من زخرف الدنيا¡ لكنّه الآن لا يُكلِّفه ذلك إلا مشاركة صورته على وسائل التواصل الاجتماعي¡ ولا شكّ أن استفادة المغرضين من هذه الوسائل ينبغي أن يُقابلها ارتفاع وعي المجتمع¡ ومضاعفة جهود المصلحين¡ وسدُّ الثغرات التي يدخل من خلالها المفسدون.




http://www.alriyadh.com/1765319]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]