عندما سُئل الناقد الكبير عبد الفتاح كيليطو عن سر تميز كتاباته أجاب باختصار: «كل ما في الأمر أنّي أحتفظ¡ عند كتاباتي¡ بتصور التلميذ الذي يود تحرير موضوع إنشائي على نحو جيد¡ ليثني الأستاذ عليه¡ ويطلب منه أن يقرأه على زملائه». وأعتقد أنّ أغلب الأدباء والشعراء الموهوبين يبدؤون تجاربهم في الكتابة الإبداعية وهم يحملون في دواخلهم مشاعر التلميذ النجيب¡ الذي لا تتجاوز طموحاته حدود كسب إعجاب معلمه واعترافه كخطوة أولى تُمهد لخطوة أكبر هي وصول صوته إلى شريحة أوسع من المتلقين¡ لكن تلك المشاعر¡ وبكل أسف¡ تتلاشى سريعاً أو تدريجياً¡ لأسباب مختلفة¡ لتتلاشى معها قدرة الطالب الموهوب على إبداع ما يلفت النظر أو يستحق أن يُسمّى أدباً.
توهُّم «الأستاذية» داء خطير يُصاب به كثير من الشعراء الشباب الموهوبين بعد تلقي الإشادة من مشاهير¡ أو بعد نشر وانتشار قصائدهم الأولى¡ وأقول إنه داء خطيرº لأن انتقال المبدع السريع من تصوّر «التلميذ» إلى تصوّر «الأستاذ» ينتج عنه¡ ابتداءً¡ عزوفه عن عرض إنتاجه الشعري على من هم أكثر خبرة ومعرفة منه¡ وصولاً إلى تعاليه على النقاد والمنتقدين ورفض أحكامهم واتهامهم بالحسد أو بالجهل بصناعة الشعر.
من المألوف أن يقابل الناظر في تاريخ الشعر اعترافات شعراء كبار بمرحلة «التلمذة» والاستفادة من شعراء أكبر منهم سواء في تقويم قصائدهم أو بتشجيعهم وتقديم إنتاجهم للآخرين¡ فلم يكن البحتري¡ على سبيل المثال¡ يخجل من الاعتراف بفضل أبي تمام عليه¡ ويقول حين يمدحه أحدهم إنه أكثر شاعرية: «كلا والله¡ ذلك الأستاذ الرئيس¡ والله ما أكلت الخبز إلا به»¡ لكن كثيراً من شعراء اليوم يخجلون من مسألة الاعتراف بمرحلة «التلمذة» لأي أحد¡ إذ يخشى الواحد منهم أن يُتهم بأنه تابعٌ أو مُقلد لشاعرٍ سابق¡ أو لا يريد أن يوصف بأنه امتدادٌ لمبدعين آخرين¡ بل هو - كما يرى نفسه - مبدعٌ فذ لا نظير له!
لا ينظر بعض الأدباء إلى كلمة «تلميذ» إلا في إطار ضيق مُقترنة بدلالات التبعية وتقزيم الذات والاحتياج إلى مساعدة الآخر أو «الأستاذ» الذي يأخذ بيده¡ مع أن الكلمة تحمل دلالات رائعة من بينها التواضع الجم والسعي الدؤوب للتفوق على الآخرين¡ وحين يظل الشاعر عند تصور «التلميذ»¡ كما فعل كيليطو وغيره من الأدباء المبدعين¡ فهذا يعني أنّه سيستمر في تركيزه على أمور أساسية أبرزها: جودة «النص الشعري» بغية كسب رضا المتلقين¡ ولن يشتت تركيزه في أمور أقل أهمية كالبحث عن الأضواء¡ أو تشتيت الجهد في نظم قصائد هزيلة للاستجداء أو لمجرد إثبات الحضور.
أخيراً يقول مشعل الزعبي:
تكابرت لا أكلّم بحاجاتي الشيخان
وأنا أكلّم الله خمس مرات في فرضي
فإذا شحت أرضي بالموارد وأنا ظميان
فكل أرض تدنيني من الأمنيات أرضي
وإذا فلوسي ونفسي وعرضي على الميزان
فلوسي فدا نفسي ..ونفسي فدا عرضي




http://www.alriyadh.com/1768833]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]