المجتمعات التي سوف تموت فكرياً وثقافياً خلال العقود القادمة هي فقط تلك المجتمعات التي لم تحدد بعد فلسفة - الأين والمكان - في نظامها التعليمي¡ ونحن في مجتمعنا نشعر بالحراك التحولي ونؤمن بأن رؤية 2030¡ هي إحدى الأدوات الأساسية لبناء مجتمع حديث..
كنت في بداية عملي الوظيفي معلماً قبل أن أهجر هذه المهنة التي لم أعد أحبها لأسباب لا تتعلق بالمهنة أو بعض رموزها الأكفاء¡ بل بالأجواء التي كانت سائدة في مؤسسات التعليم في التسعينات الميلادية وما قبلها¡ لمن لا يعرفون تلك الفترة¡ فهي فترة يمكن أن نطلق عليها فترة (الشعبوية الصحوية)¡ وهذا المقال ليس محاكمة لمرحلة سادت فيها أسطورية التسلط المباشر وسياسة الإقصاء¡ وقد كدت أن أكون أحد ضحايا هذه المرحلة وهذه الثقافة¡ ودخلت كما غيري في دوامة الهجوم والدفاع.
لقد سادت فترة من الخبط والخلط والتشويش اقتحمت الساحة الفكرية والثقافية في المجتمع¡ ونقل التعليم في تلك الفترة من مسار تنموي هادئ إلى معركة فكرية طاحنة احتلت - الأين وسادت المكان - ولم أجد مصطلحاً يمكنه التعبير عن تلك المرحلة مثل تعبير (الشعبوية الصحوية)¡ وأكرر أن الموضوع هنا ليس محاكمة للماضي بقدر ما هو استشراف للمستقبل الذي ينتظره أبناؤنا.
هناك أكثر من دينامية فكرية يمكن أن يقوم عليها تعليمنا¡ ولكن فكرة الانتماء إلى مدرسة محددة يجب أن يكون من الماضي¡ نحن في زمن علمنة التعليم من ارتباطات وممارسات افقدتنا "الأين والمكان"¡ لقد كانت الشعبوية الصحوية مساراً سياسياً متعرجاً أكثر من كونها أيديولوجيا ملتهبة¡ وجدت بفعل ظروف خارجة عن الإدارة في كثير من الأحيان.
نحن في مرحلة تغير مجتمعي¡ لذلك فإن انتزاع المراحل من بعضها عملية صعبة ليس من السهل تجاوزها¡ ولذلك تظل فكرة - الأين والمكان - هي النزعة الفلسفية الأكثر أهمية فلسفة التعليم في مجتمعنا¡ وبحاجة ماسة إلى البحث عن - الأين - الفعلية فالاتجاه الصحيح أصبح عملية واضحة لأن العالم في تغير جذري لم يعد فيه للتعليم التقليدي أي مكان¡ وإذا لم ندرك أننا لا بد أن ندفع ثمن هذا الاتجاه فإن عملية التحديث لن تنجح¡ كما أن فلسفة - المكان - التي نريد أن يرسو عليها تعليمنا مازالت غير متصورة في عقول ممتهني التعليم.
في الفلسفة التعليمية هناك الكثير من الأدوات التي تتشكل وفق تراتبية محكمة من حيث الأولويات¡ بمعني دقيق فإن عملية تغيير المقررات الدراسية ليست سوى خطوة في تلك التراتبية لنقل الثقافة التربوية إلى مشهدها الجديد¡ كما لا تشكل عملية تحديث كفاءة المعلمين سوى ذات الدرجة¡ في الحقيقة إن فلسفة التعليم تبدأ بسياسة تعليمة واضحة المعالم يحدد فيها - الأين والمكان - في مستقبل تعليمنا¡ فنحن أمام مرحلة تغيير عالمية كانت في الماضي تسمح ببقاء المتخلفين عنها بالبقاء أحياء¡ العالم اليوم يعيش ثقافة لم تعد كما كانت¡ فمن يتخلف عن مواكبة تلك التغيرات والثقافة فقد يواجه خطر الموت فكرياً وثقافياً ومجتمعياً.
المجتمعات التي سوف تموت فكرياً وثقافياً خلال العقود القادمة هي فقط تلك المجتمعات التي لم تحدد بعد فلسفة - الأين والمكان - في نظامها التعليمي¡ ونحن في مجتمعنا نشعر بالحراك التحولي ونؤمن بأن رؤية 2030¡ هي إحدى الأدوات الأساسية لبناء مجتمع حديث¡ وهذا ما يجب أن يدفع مؤسسات التعليم لدينا إلى بناء سياسة تعليمية محكمة ترصد كل التحولات المحتملة مستقبلاً وتكون المرجعية الأساسية لبناء فلسفة التعليم لدينا.
لقد كانت النزعة السيادية للشعبوية الصحوية من أقوى المشتركات التي انتشرت مساحة المكان الجغرافية عبر مجتمعنا واتجاهاته الأربعة¡ وهذا ما ترك الكثير من الآثار الفاعلة التي غيرت في البنية الثقافية للمجتمع. كل ما نحتاجه اليوم من أجل نظام تعليمي بارع هو التفاؤل وعدم التشاؤم¡ والايمان بمواجهة العقبات وتجاوز التحديات¡ تعليمنا في قضية - الأين والمكان - قضى الأربعة عقود الماضية في مسار سادت فيه أدوات التحكم أكثر من فلسفة البناء¡ بمعنى دقيق لقد كانت فكرة التعليم محصورة وبشكل ضيق في مسار الشعبوية الصحوية التي انتجت معطيات سلبية كبرى.
لقد كنا بحاجة إلى نظام تعليمي يُنشئ مجتمعاً يستطيع أن يتفاعل مع العالم بصورة إيجابية من حيث المواقف الفكرية والأيديولوجية¡ ولكن هذه الأمنية يمكنها أن تتكرر اليوم مع معطيات التحول ورؤية السعودية التطويرية¡ ولكن بشرط أساس يعتمد على التغيير الهادئ المتفائل غير المتشنج¡ البعيد عن فكرة أن التطوير يجب أن يمر على جثث الماضي الفكرية.
إن أسواء أعداء فلسفة - الأين والمكان - في التعليم هو أن يسمح لبعض التقاليد والأفكار والأيديولوجيات أن تقرر وبلا مجادلة أن حياة الفرد في إطار مشوش بين الميتافيزيقا والواقع هي أهم من حياة تواكب التحولات وفق معادلة فكرية وثقافية متوازنة بين واقع ثقافي حقيقي وبين واقع تطوري فعلي.




http://www.alriyadh.com/1773223]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]