حين تحرص الدول على زيادة المساحات الخضراء فهي لا تعمل ذلك عبثاً¡ لكنها تعلم يقيناً أنها ستعود على الإنسان بالصحة¡ وعلى اقتصاد البلد بالمزيد من جذب الاستثمارات¡ فالانطباع الإيجابي مهم جداً لمناخ الاستثمار¡ وهو ما قامت به سنغافورة حين حوّلت كامل الجزيرة إلى حديقة غناء..
كنت قبل أيام في شمال الهند¡ تجولت في أكثر من مدينة وحتى جبال الهملايا¡ وقد سرني كثيراً ما شاهدته من اهتمام كبير بالشجرة¡ حيث زرعت على جانبي جميع الشوارع التي مررت بها وعلى امتداد الطرق السريعة بين المدن¡ بعكس ما كانت عليه قبل أكثر من عشر سنوات¡ وذكر مرافقي أن الحكومة الهندية طلبت من كل مواطن أن يزرع شجرة¡ وهو ما يعني أكثر من مليار وثلاثمائة مليون شجرة سيزرعها المواطنون في عام واحد¡ ناهيك عن الجهات الحكومية والجمعيات البيئية وغيرها.
وفي يوليو من العام الماضي استطاع مليون ونصف المليون متطوع من الهند زراعة 66 مليون شجرة في 12 ساعة فقط محققين رقماً قياسياً على مستوى العالم¡ كما تم إقرار أنظمة صارمة لحماية الأشجار الموجودة وعدم المساس بها وإكثارها.
وفي المملكة أمامنا طريق طويل قبل أن تصبح الشجرة مكوناً أساسياً في كل مشروع حكومي أو تجاري¡ وأن تعمم زراعة الأشجار على جميع الشوارع وأسوار المنازل والمدارس والمساجد¡ فالوعي بأهمية الشجرة شبه غائب¡ ويكفي أن تطل من نافذة الطائرة قبل الهبوط في أي مدينة من مدن المملكة وقارنها بما تراه في مدن العالم المتقدم¡ فلا وجود للخضرة إلا ما ندر.
لا شيء يبهج النفس ويجلب الصحة البدنية والنفسية كالخضرة سواء كانت شجرة داخل بيت أو في الشارع أو في حديقة عامة يرتادها الجميع¡ ففي المدن الأوروبية تعتبر الحدائق الكبيرة هي المتنفس والرئة للمدينة والمكان المناسب لممارسة الرياضة وخاصة رياضة المشي¡ أنا على يقين بأن المملكة ومع حرص قيادتها على زيادة الرقعة الخضراء ستحقق الكثير لتلبي أهداف الرؤية 2030¡ ومما سيسهم في تسريع ذلك المقترحات الآتية:
أولاً- البلديات من أهم المرافق الحكومية التي تحتاج إلى تطوير¡ وهذا موضوع متشعب وقد يحتاج لمقال مستقل¡ لكنني سأقصر تطوير البلديات على ضرورة تثقيف منتسبيها بأهمية الشجرة وفوائدها المتعددة¡ مع ضرورة وضع أنظمة تمنع إزالة الأشجار من الشوارع والميادين أو تقزيمها إلا بعد دراسة وبحث عن البدائل وفي أضيق نطاق وبإذن من الأمانة التابعة لها البلدية¡ وليس من المهندس أو مدير البلدية¡ مع تقليل مساحات الأرصفة الخرسانية¡ وهذا لن يتم إلا بإعطاء دورات مكثفة وزيارات خارجية لرؤساء البلديات ومهندسيها¡ ومتابعة ومحاسبة من يخالف الأنظمة البيئية¡ ومما تستطيع البلدية القيام به اشتراط وجود الأشجار ضمن مخطط كل مرفق يقام¡ وخاصة الأسواق المركزية والدوائر الحكومية مع ضرورة اختيار الأشجار المناسبة لكل منطقة.
ثانياً- وزراة البيئة والمياه والزراعة هي الأقدر على زراعة ملايين الأشجار سنوياً وبالتعاون مع أمراء ومحافظي المدن والجامعات والجمعيات البيئية والأفراد¡ وتجاوز عقبة الروتين المعطل كشرط استخراج صك ملكية الأراضي المراد زراعتها قبل البدء بالتشجير¡ بل نبدأ بالتشجير ووضع السياج ثم استخراج الصك في وقت لاحق وليس العكس¡ وتعتبر الأودية والرياض من أنسب البيئات للتشجير والاستفادة من حصاد الأمطار¡ ويظن الكثير من الناس أن الأشجار بحاجة إلى الكثير من المياه¡ والحقيقة هي أن لكل منطقة أشجارها التي تتأقلم مع مناخها وشح مياهها¡ ومتى ما كانت الأشجار من البيئة أو من بيئة مشابهة فإنها لن تحتاج إلى الكثير من الماء وخاصة بعد السنوات الأولى¡ أما زراعة الأشجار غير المناسبة كالنخيل فهي مكلفة للغاية وبحاجة إلى مياه دائمة وعناية مستمرة¡ إضافة أنه يوجد في كل مدن المملكة فائض من مياه الصرف الصحي يكفي لسقيا غابات على أطراف المدن أو الأودية¡ أو حدائق كبيرة داخل كل مدينة وقرية.
ثالثاً- العائد الاقتصادي من التشجير والحدائق وميادين المشي لا يقدر بثمن¡ فهي تنعكس على الصحة البدنية والنفسية¡ فوجود الميادين الخضراء يشجع على ممارسة الرياضة ومكافحة السمنة¡ كما أن إنتاجية الفرد تزداد مع وجود الشجرة داخل مكان العمل أو حوله¡ ويكفي أن نعلم أن الخسارة الاقتصادية للمملكة في العام الماضي بسبب التلوث تقدر بنحو 83 مليار ريال حسب التقرير السنوي لهيئة الأرصاد وحماية البيئة.
حين تحرص الدول على زيادة المساحات الخضراء فهي لا تعمل ذلك عبثاً¡ لكنها تعلم يقيناً أنها ستعود على الإنسان بالصحة¡ وعلى اقتصاد البلد بالمزيد من جذب الاستثمارات¡ فالانطباع الإيجابي مهم جداً لمناخ الاستثمار¡ وهو ما قامت به سنغافورة حين حوّلت كامل الجزيرة إلى حديقة غناء.




http://www.alriyadh.com/1776548]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]