في رحلة إلى أوروبا¡ كنت أستقل سيارة يقودها سائق عربي مهاجر¡ كان يحكي لي كيف أن ظروف الحرب اضطرته إلى ترك بلاده وخوض أهوال البحر ليصل إلى الضفة الأكثر تحضرًا وأمانًا ورخاء. كان حديثًا مليئًا بالألم والشجن والذكريات¡ حاولت أن أنقل الحديث معه إلى مساحات أكثر إيجابية وإشراقًا¡ قلت: لكنك الآن تعيش آمنًا مع أهلك في بلد يحترم إنسانيتك¡ ويمنحك كل ما تتمناه الحياة وأكثر. أشرت إلى طرفي الطريق وأضفت¡ ناهيك عن أن تستيقظ كل صباح على هذه الطبيعة الساحرة والخضرة التي تملأ الأفق. تمتم الرجل "ما أعذب الوطن مهما كان قاسيًا! وما أقبح الغربة مهما كانت فاتنة!".
كانت تلك الجملة كفيلة بأن تنهي الحوار¡ فحب الوطن مشاعر لا يمكن تفسيرها أو وصفها¡ هي ليست حبًا في المكان أو الناس أو حتى الثقافة وحسب¡ بل هي جملة من المشاعر التي نحملها ولا نفهمها¡ هي أغصان وبراعم وارفة تنمو في دواخلنا منذ الصغر¡ لا تنتعش وتدب فيها وفينا الحياة إلا عندما ترتبط بالجذور التي خرجت منها.
ربما كان ما يسمى الربيع العربي وما نتج عنه من موجات التهجير هو أكبر درس جماعي في حب الوطن والتفاني في خدمته¡ فما حدث للبلدان المنكوبة نتاج لمرض مزمن وخطير¡ تسببت فيه القيادات والشعوب¡ وانتهى بهم إلى الهاوية¡ ذلك المرض تشكل في عدة مظاهر كلها تأتي تحت تشخيص واحد هو "خيانة الوطن"¡ فالمسؤول الذي يسرق المال العام¡ ورجل تطبيق القانون الذي يستغل منصبه ويتلاعب بالأنظمة¡ والمقاول الذي ينفذ المشروعات بشكل رديء كلهم أبعد ما يكونون عن الإخلاص للوطن مهما دندنوا على أوتار حبه وتغنوا بعشقه.
هذه الأيام ونحن نعيش مناسبة اليوم الوطني نحتاج أن نتذكر دائمًا ما يعنيه الوطن¡ وأن الأمر يتجاوز الشعارات إلى الأفعال¡ فما نرفل فيه من حياة كريمة وما نعيشه من رخاء وأمان نتاجٌ لقيم يجب ألا نتنازل عنها أو أن نفرط فيها¡ فكلما تشبعت أرواحنا بحب الوطن والإخلاص له¡ عملنا أكثر لأجل رفعته وسموه وازدهاره. ولا يوجد قُربان نقدمه لمحبته أنبل من قيم الإخلاص والتفاني في خدمته والسعي الدائم لرفع اسمه بين الأمم.
وأخيرًا¡ أسأل الله الكريم أن يعيد علينا هذه الذكرى الغالية¡ وبلدنا الحبيب وقيادته وشعبه في عز وتمكين ورخاء وأمان¡ وأن يعيد لإخواننا الذين فقدوا أوطانهم تلك النعمة التي لا تقدر بثمن.




http://www.alriyadh.com/1777148]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]