لقد بات الوجدان العربي معلقاً بين ما هو مستحدث لا يمت للتراث بصلة¡ وبين انسحاق تام في تعاطي ذلك الموروث¡ والهوة باتت كبيرة بين المستويين¡ فبهت الحس الكافي الذي يبعث على قوة اتخاذ القرار والحصانة المعرفية الباعثة على التفكر والتدبر وإعمال العقل..
هناك حيرة وتساؤلات: لماذا تنجح الأدبيات والأعمال الفنية الغربية¿ وما سر بهجتها¿ وإلى أي مدى تؤثر فينا¿ ولماذا اعتمدت هذه الدول عليها بما يسمى بالقوى الناعمة¿ حتى باتت مصدراً من مصادر الانتصار¡ كما أصبحت قوة تعتمد عليها هذه الدول في اقتصادها.
ولعلنا نهتدي للجواب إذا ما تأملنا أن هذه الدول جميعها قد اعتمدت على تراثها في تكوينه الإبداعي وجعلته منهلاً من مناهل هذه القوى! ذلك أن أعمالهم الفنية بصفة خاصة والأدبية بصفة عامة قد ارتبطت بالميثيولوجيا الإغريقية ارتباطاً وثيقاً¡ ويرجع ذلك إلى الحركة النقدية الفاعلة لديهم والتي لا ترتكز على المنظور السياسي في غالب الأمر وإنما ترتكز على العمق الإنساني في تلك الإبداعاتº فباتت تلك الأعمال خالدة ومؤثرة بشكل كبير!
والحقيقة أن الموروثات باتت تشكل جزءاً كبيراً من تشكيل الوجدان¡ والوجدان هو موطن التأثر والارتكاز على الحس والعمل على قوة اتخاذ القرار¡ لأنه مكمن العاطفة والإحساس المرتبطين به ومدخله الأساس¡ هو ما يعمل على التغيير من خلال المتعة.
إن طائفة كبيرة ترى أن في استلهام التراث والنهل من منابعه أمراً قد ولّى¡ وعلينا أن نبحث فيما هو مستحدث! وهو قول جيد ولا ننكره¡ لأن كل ما هو جديد من مدارس إبداعية ونقدية هو تلك المرآة المحدبة التي يجب أن نبتكرها¡ ونغذي بها إبداعاتنا¡ ولكن يجب أن نعمل على ذلك الهجين الموروثي الثري لدينا من تراثنا الذي كون الشخصية العربية بشكل عام¡ وبذلك نكون قد حققنا ذلك التلامس الغائب في أدبياتنا - ولنقل في جلها - وهو ما يعطيها ذلك البعد الإنساني والذي هو في عمقه يعد بعداً حقيقياً للمتعة¡ فهي ما تجعل استمرار حمل المشعل الحضاري من يد إلى يد أمراً حتمياً¡ وهي التي تجعل انتقال هذا المشعل إضافة جديدة باستمرار في ضوء الذي يتغلغل في وجدان الإنسانية عبر الزمن.
يقول عالم التراث فاروق خورشيد في كتابه عالم الأدب الشعبي بهذا الصدد: "في ظل ابتعادنا عن المجتمعات الشعبية العربية الكبيرة كمصدر أساس من مصادر العطاء الفني - صاحب تأثير حقيقي على فهمنا لما أعطاه الأدباء من نتاج أدبي منذ عصور الأدب العربي الأولى وحتى الآن - قد لون هذا الابتعاد أحكامنا النقدية على الأدب والأدباء¡ بحيث سطح هذه الأحكام وربطها بظروفها الضيقة من بيئة وأحداث تاريخية.. دون أن يربطها ربطاً عضوياً وحقيقياً بالضمير الإنساني الكافي¡ ودون أن يربطها ربطاً عضوياً وحقيقياً بالضمير الشعبي العربي منذ لحظات تكونه الأولى".
وعلى ذلك بات الوجدان العربي معلقاً بين ما هو مستحدث لا يمت للتراث بصلة¡ وبين انسحاق تام في تعاطي ذلك الموروث والهوة باتت كبيرة بين المستويين¡ فبهت الحس الكافي الذي يبعث على قوة اتخاذ القرار والحصانة المعرفية الباعثة على التفكر والتدبر وإعمال العقل!.
إننا نسمع ونقرأ¡ ونمسى ونصبح¡ على ما يسمى بالقوى الناعمة¡ وفي هذا العالم المتغير والملح جداً على التغيير لا بد أن نعي مدى قدرة هذه القوى¡ بحيث أنها أصبحت سلاحاً مخيفاً وفاعلاً في كل الوسائل والوسائط¡ ويحسبها الفرد منا مجرد ثقافة على قارعة الطريق¡ أيلتقطها أم يدعها¿¡ فهو بحسب مزاجه المتراوح بين الأخذ والعطاء¡ بينما لا يعلم أنها لا شك مؤثرة وفاعلة في الذهن شاء أم أبىº وعلى ذلك فمن الأجدر بنا أن نصنع لنا عالماً من الأدب والثقافة المرتكزة على عمقنا الإنساني نحن¡ والذي هو لب التأثير فينا من أجل أن ننتج هذه القوى التي تفرد بها الغرب¡ والتي إذا ما تفحصناها لوجدنا جلها من الإلياذة والأوديسة¡ لم يتأففوا من ذلك الماضي الأسطوري¡ ولم يعتبروه سقط متاع¡ بل دونوا أدبياتهم وزخرفوها وطرزوها بها¡ لأنهم يعلمون ذلك العمق الإنساني فيها الذي تلامسه أدبيات التراث والأسطورة لدينا عبر خيال آخذ بالتسرب الوجداني في غفوة ماتعة أثناء التلقي¡ بينما يتكون في اللحظة ذاتها بلورة الفكرة وشحذ المعرفة وتقوية اتخاذ القرار¡ وربما لا يناسبنا! هذا هو النهج الذي جعل القوى الناعمة فاعلة ومؤثرة حتى فينا نحن فنُشده ونُبهر ونكتب ونحلل ونحسدهم على عبقرياتهم بينما الأمر أبسط من هذا بكثيرº فكل ما أهداهم الله لهم¡ هو إدراك البعد الإنساني والاتكاء عليه¡ بعيداً عن المباشرة والخطابة والفجاجة والسطحية والعنف التي رسخها النقاد أنفسهم في إنتاجنا الذي بات ممجوجاً باهتاً يبحث عن ناقد متعاطف يمتدح أو يندد بحسب تعاطفه ومن دون معيار نقدي وأنا أسميهم ( نقاد الهوى) وهو ما يطلق عليه في المناهج النقدية (النقد الانطباعي) كل بحسب انطباعه هو ومن دون معايير مدروسة¡ ثم إن تناول الأعمال والإنتاج الفني والإعلامي والأدبي أصبح لا يُدخل لها سوى من زاوية واحدة بينما للنقد خمسة مداخل هي دستور النقاد في العالم¡ وكل مدخل له معاييره المتفق عليها.
وعلى ذلك أصبح الإنتاج الإبداعي بين مقود المبدع الباحث عن رضا النقاد والخائف من تناولاتهم¡ وبين سطوة نقد لا يبحث عن العمق الإنساني في جل هذا الناتج الذي هو مقود الوجدان نحو صناعة الإنسان نفسه شاء أم أبى¡ ومن هنا أصبحنا نتجه إلى كل ما هو نتاج عالمي ولسنا بملومين لأننا نجد المتعة فيه ونحن لا نعلم من أين استقى وكيف تأتى¡ وإنما هي لحظات مبهجة نتعاطاها وقد تؤثر فينا تأثيراً مغايراً بحسب الشخصية العربية نفسها وبحسب تكوينها¡ والأخطر من ذلك وذلك هو التأثير القوي في التغيير وفي اتخاذ القرار.!




http://www.alriyadh.com/1784079]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]