من الغبن أن يصبح الإنسان قوياً معافى ويُمسي ولم يحقّق شيئاً مما ينفعه في دينه أو دنياه¡ ومن اقتصر سعيه للدنيا¡ وصَرَفَهُ ذلك عن واجباته الدينية فقد غُبِنَ أيضاًº لأنه ألهاه التدبير للدار الفانية عن التدبير للدار الباقية..
من حكمة الله تعالى أن قَسَمَ بين الناس الأرزاق المعنوية والمادية¡ ورفع بعضهم فوق بعض في ذلك¡ فكانت الخصوصيات والإمكانات المادية والمعنوية فرصاً حقيقية ليترك الإنسان أثراً إيجابياً¡ ويُسطّر على صفحات سيرته من الإنجاز ما يُحمدُ ويُثابُ عليه¡ فمن واتته الإمكانات فلم يستثمرها حقّ الاستثمار فقد حَرَمَ نفسه والبشرية من النفع بقدر ما عطّل من القدرات¡ والإمكاناتُ متنوعةٌ ومتفاوتةٌ لكن تجتمع في كون استثمارها مصلحة¡ وكون تعطيلها مفسدة¡ وهذه نماذج لإمكانات إذا وُظِّفتْ في النفع نَفَعَتْ الناس ورَفَعَتْ صاحبها¡ وإن أُهدرتْ كان ذلك خسارةً وحسرةً¡ فمنها:
أولاً: الجاه والمكانة المرموقة¡ ومن السنن الكونية أن الناس منهم الوجيه صاحب المكانة المرموقة على اختلاف مراتب ذلك¡ ومنهم عوامٌّ لا حظّ لهم في ذلك¡ والوجاهة إذا وُظِّفَتْ في النفع حَسُنَتْ آثارها¡ وعمّ نفعها¡ وتحقّقت بها المصالح¡ واندرأتْ بها المفاسد¡ فكم تحقَّقَ الخير العظيم بمساعي ذي جاه¡ تصنعُ كلمتُهُ العجائب بفضل الله وتوفيقه¡ وكم من دمٍ حُقنَ بشفاعة مُعَظَّمٍ يثقُلُ على النفوس أن ترفض وساطته¡ وإذا كانت الشفاعة من هذا النوع المحقق للمصلحة الدافع للمفسدة كانت أجراً للشفيع¡ فعَنْ أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ¡ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» متفق عليه¡ كما أن فيها الذكر الحسن والحمد الباقي¡ ولا شكّ أن من كان وجيهاً فأَهمَلَ النّفع بجاهِهِ حَرَمَ الناس من المصلحة¡ وحَرَمَ نفسه من الفضل الذي يناله من يُصلحُ بين قريبين تنافرا¡ أو صديقين ساء التفاهم بينهما¡ أو يفتح الباب لنفع غيره¡ أو تخليصه من مشقة.
ثانياً: العلم والمعرفة¡ فهذه الإمكانية من أنفع الإمكانات وأوسعها بركة¡ ومن وظّف إمكاناته العلمية للنفع عمّت بركة جهوده¡ وحظيَ بالأجر والفضل¡ والناس في أمسِّ الحاجة لمن يجلب لهم المصالح بالعلم¡ ويدرأ به عنهم المفاسد¡ والعلمُ أصنافٌ فمنه الشرعيُّ بأنواعه ووسائله¡ ومنه العلوم الكونية كالطبِّ والهندسة وغيرها¡ فإن فعل ذلك فأجره على الله¡ ويبقى له من الذكر الحسن ما لا يخفى¡ فما زال من قدّموا للبشرية خدمةً علميةً محلّ عنايةٍ وتقديرٍ على تطاول الأزمان¡ وبالمقابل من أهمل إمكاناته العلمية حَرَمَ نفسه والناس من المنافع¡ وفوق ذلك يترك المجال لدجاجلة المتعالمين ممن يُرهقون الناس بالأفكار الضالة¡ والمعلومات المغلوطة التي تضرُّهم في دينهم ومعاشهم.
ثالثاً: المال¡ والتفاوت فيه من الحكم الإلهية¡ ولو تساوى فيه الناس لنشأ لهم نوعٌ آخرُ من الضيقº إذ يتلاشى عمل بعضهم لبعض¡ فيتكلّفُ كُلُّ الناس جميع الأعمال التي احتاجوها قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)¡ وتوظيف الإمكانات المالية في النفع من أهمِّ أسباب سعادة الدارين¡ فالغنيُّ الذي يُدبِّر أمواله كما ينبغي¡ ويراعي حقوق أسرته وذريته¡ ويحتاط لمستقبلهم¡ ويُقيمُ مشروعات تجارية نافعة للمجتمع هذا الغنيُّ مُباركٌ على الناس¡ وتزداد تلك البركة إذا كان من أهل الإنفاق والخير¡ وإنما يتمنّى الكرام الثراء لينفعوا أنفسهم ومجتمعهم ويسدُّوا خَلَّات الناس¡ ولا تُخطئُ العين ثمرات جهود أغنياء لم تتحقّق لكون الثروة حكراً عليهم¡ بل لأن الله تعالى وفّقهم فوظّفوا إمكاناتهم في المنافع¡ ومثل هؤلاء لو تعثّر في حياته فتضرّرت ثورته لم ينله من الحسرة والغبن ما ينال من فرّط في أيام إمكاناته فلم يحتط لمستقبله¡ ولم يستثمر في المجالات المهمة¡ ولم ينفق.
رابعاً: الصحة¡ فالصحة رافدٌ يَمُدُّ الإنسان بطاقةٍ ضروريةٍ للإنتاج والعمل¡ وهي مُعرّضةٌ لعوارض كثيرةٍ من أمراضٍ متنوعةٍ وحوادث مفاجئةٍ¡ وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم التفريط في استغلالها في العمل غَبْناً¡ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا¡ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» أخرجه البخاري¡ فالذي ينبغي لمن كان مُمتّعاً بصحته أن يتّعظَ بمن سُلبت منه¡ وأن يستغلّ العافية للعمل البنّاء الذي يعود عليه وعلى مجتمعه بالمنفعة¡ وأن يكتشف المجال الذي يُمكنهُ أن يُسْهِمَ من خلاله في التحصيل والكسب المعرفيِّ أو الماديِّ¡ فيركز جهوده على العمل فيه¡ ومن الغبن أن يصبح الإنسان قوياً معافى ويُمسي ولم يحقّق شيئاً مما ينفعه في دينه أو دنياه¡ ومن اقتصر سعيه للدنيا¡ وصَرَفَهُ ذلك عن واجباته الدينية فقد غُبِنَ أيضاًº لأنه ألهاه التدبير للدار الفانية عن التدبير للدار الباقية.




http://www.alriyadh.com/1794109]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]