الدين ليس شيئًا يمكن أن يُضاف إلى الإنسان أو يحذف منه¡ وإنما هو أمر لصيق بالوجود الإنساني¡ فالإنسان بحاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادي من وقت لآخر لكي يعانق شيئًا آخر أكثر دوامًا واتساعًا.
في محاولة تتبعنا للعلمانية الغربية وعلاقتها بالفكر العربي المعاصر وعلى الرغم من أن كتابات كثيرة تناولت هذا الموضوع رصدًا ومتابعة وتحليلًا سواء من داخل النسق العربي أو من خارجه إلا أن هذه الكتابات تتنوع منهجياتها ما بين الرأي السياسي والبعد المعرفي.
ولكن السؤال متى تداخل الفكر العربي مع العلمانية الغربية¿
يؤرخ معظم الباحثين بداية هذه العلاقة بمنتصف القرن التاسع عشر والتي حدثت عن طريق مفكرين عرب مسيحيين تحت مظلة القومية العربية.. وإن كان تحديد اللحظة أو التاريخ الذي تنطلق فيه أي حركة أمراً صعباً فالأفكار تبدأ قبل الفعل بسنوات.
وعند ذلك لم تلقَ العلمانية رواجًا في دول المغرب العربي والخليج العربي وإنما تركزت في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية مسيحية¡ ولذلك كانت العلمانية كما يقول د. برهان غليون مرتبطة ارتباطًا عضويًا بمشكلة حقوق الأقليات الدينية لكي لا تكون محكومة بدين الأغلبية.
ولكن ما مدى إمكانية تطبيق العلمانية بنجاح على جميع المجتمعات وفي كل الظروف¿
فعندما ننظر إلى العلمانية كنظرية أو كواقع تاريخي نراها تغوص بعيدًا في بنية الفكر الديني المسيحي الغربي وبالذات في العلاقة المتوترة ما بين الكنيسة والدولة الأوروبية.
غير أن العلاقة المتوترة بين الدين والدولة لم تكن قاعدة عامة على كل المجتمعات البشرية وإنما كانت حالة خاصة بأوروبا القرون الوسطى¡ فقد كانت هنالك علاقة انسجام وتفاهم عام ودائم بين البوذية والكونفوشيوسية والدولة في آسيا¡ وبين الإسلام والدول العربية.. واليوم بين المسيحية وأوروبا وأميركا ذلك أن التناقض ما بين قيم الدين وقيم المجتمع لا يمكن أن يحصل إلا في حالات استثنائية وظرفية لأن الدين سرعان ما يعود ليتلاءم مع الدولة.
فما إن انتهت الثورة الفرنسية عام 1798م عاد الناس في فرنسا وأوروبا وفي غيرهما إلى إقامة توافقات في العلاقة بين الدين والسياسة¡ واليوم ألمانيا تقوم بمساندة المؤسسات الدينية¡ كما تم الاعتراف للتاج البريطاني برئاسة الكنيسة الأنكليكانية¡ وفي إسبانيا وهولندا نجد تراضيات مماثلة أثبتت قدرتها على الاستمرار وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية.
فالدين ليس شيئًا يمكن أن يضاف إلى الإنسان أو يحذف منه وإنما هو أمر لصيق بالوجود الإنساني¡ فالإنسان بحاجة إلى أن يتجاوز شرطه المادي من وقت لآخر لكي يعانق شيئًا آخر أكثر دوامًا واتساعًا.
إن عدم طرح إشكالية العلمانية في الفكر العربي الإسلامي قبل العصر الحديث يجد تفسيره في كون الإسلام هو أسس بنفسه للحيز المدني وأكد عليه وشرع له.. فالطابع المدني للفكر الإسلامي هو الذي ساعد على تجذره في المجتمع وجعله شديد الارتباط والتماهي مع ما نطلق عليه اليوم المجتمع المدني¡ ومن أهم العوامل التي عززت هذا الطابع المدني غياب فكرة المؤسسة الدينية المعصومة في الإسلام وانفتاح الاجتهاد بحرية أمام الجميع.
إن السر في حيوة الإسلامي وتجدده التاريخي تكمن أساسًا في طبيعته المدنية¡ ولذلك أصبح كدين ومركز تضامن جمعي قادرًا على إحياء نفسه باستمرار.
إن قدرة الإسلام الدائمة على تجاوز التاريخي والمعاش كامنة في حيز الحرية والاجتهاد وانفتاحه العام على جميع الطبقات واستيعابه للعقل واجتهاداته المتغيرة.. وهو ما أعطى للإسلام شخصية فذة جرى التعبير عنها بروح الإسلام¡ تلك الروح التي تعبر عن الحيوية الذاتية العميقة التي تختزن إمكانية تجدد لا نهائي وإنجاب النماذج التاريخية بالعودة إلى النفس الأول للمبادئ والأصول أي التجدد ضمن الاستمرارية والتولد الدائم للنظم الجديدة النابعة من إعادة تأكيد هذه المبادئ والقيم.
ويترتب على ذلك صعوبة التمييز الحقيقي ما بين المدني والديني أو خلق التناقض بينهما فالاجتهاد في الدين نفسه هو عمل مدني¡ وهذا هو السبب في غياب إمكانية الفصل بين مجال المعرفة الدينية ومجال إنتاج المعرفة المدنية أي العلوم العامة العقلية.. ذلك أن التربية الدينية كانت جزءًا من التربية المدينة مثلما كان العلم المدني عبادة دينية فلأن المعرفة كانت واحدة ولم يكن هناك احتكار لمعرفة دينية خاصة أصبح التكوين واحدًا للأفراد جميعًا دينيًا ومدنيًا معًا دون تناقض أو تعارض.. فطبيعة العلاقة ما بين الديني والمدني في التجربة التاريخية الإسلامية طبيعة توافقية تصل إلى درجة التلاحم بين المدني والديني.
فالتماهي والالتحام بين الدين والمجتمع يكمنان في قوة النموذج التاريخي الإسلامي¡ لأن هذا التماهي قد مكن الإسلام من البقاء قريبًا جدًا من حياة الناس¡ وقد أفاد في توسعه وانتشاره ما جعل منه مصدر كل التجديدات والاجتهادات الإنسانية في كل الميادين.




http://www.alriyadh.com/1836626]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]