أبي من جذور فلاحية¡ وكان عند هؤلاء الفلاحين ولع خاص بالقهوة العربية¡ وقد أخذ عنهم والدي بعض هذا الولع¡ فكان يضع الكانون في مجلسه¡ وعليه دلة أو دلتان للقهوة¡ وبجانبه النجر والمروحة والبن والهيلº وكان يحرص على تجهيز قهوته بنفسه¡ لأن هذا الأمر لم يكن من شؤون النساء... وكان موعد هذه القهوة غالباً بعد صلاة الفجر. وخارج المنازل كانت القهوة العربية تقدم في المناسبات كافة¡ وخصوصاً مناسبة العزاء.
مقابل أنصار القهوة العربيةº كان لحضر المدينة ولع بالقهوة التركية بدرجاتها كافة¡ وكانت تعد في إناء فضي أو نحاسي (كنكة)¡ وتتكون من بن أسود مسحوق¡ عكس البن الأصفر الذي تجهز منه القهوة العربية. والقهوتان التركية والعربية كانتا تستخدمان في الحجاز في جميع الأوقات¡ وكان في أسواق المدينة المنورة خصوصاً ما يعرف بخان الجزارة¡ وسوق العياشة¡ وسوق الطباخة¡ وفي الباب المصري من يدور بدلّته لتوزيع القهوة على الباعة في الصباح الباكر¡ أما مقاهي سوق "جو المدينة" فقد كانت تقدم القهوة بنوعيها لأصحاب المحلات وروادها.
وكنت في وقت من الأوقات مولعاً بالنوعين¡ لكنني ما لبثت أن تركتهما¡ وإن كانت ما تزال تقدم في منزلي بانتظام للأهل وزوارهم. وقد ودعنا الدلال الذهبية المتعددة الأحجام¡ ومعها من تخصصوا في جليها وتلميعها لصالح الترامس البلاستيكية¡ ومنها ما يتناسب مع الأذواق والمستويات كافة منذ سنوات! ولأنه لابد من القهوة وإن طال البعد عنها¡ فقد وجدت نفسي¡ ربما بحكم مخالطتي لمن تلقوا العلم في الخارج وربما بحكم قراءاتي¡ قد التحقت بصف القهوة الأميركية المرة السوداء (النسكافيه)¡ وكنت أفضلها سوداء خالصة خالية من السكر أو الحليب¡ وحصتي اليومية منها فنجان عائلي واحد عند الاستيقاظ من النوم¡ وهو كافٍ ليجعل أموري إلى خير وراحة طوال اليوم¡ فلا قهوة بعده! لكن السنوات اللاحقة شهدت نسفاً لما ألفناه من عادات وتقاليد تخص القهوة مع ظهور محلات حديثة ومؤثثة على أحدث الطرز¡ وفي كل محل قد تجد اختلافاً فيما يقدم من منتجات القهوة عن المحل السابق. حتى أصبحنا نرى ونتذوق ونشرب عشرات الأنواع من القهوة¡ قهوة تقدم في الأماكن المكيفة وفي الحدائق¡ قهوة بالحليب والزهور والسكر والمكسرات¡ قهوة برغوة وبدونها¡ قهوة مقطرة شفطة واحدة منها تعادل الفنجان الذي أحتسي فيه قهوتيº حتى الفناجين التي ألفناها حلت مكانها كؤوس ورقية ذات تصاميم مختلفة الألوان والأشكال¡ وكل تصميم دال على صاحب العلامة التجارية¡ لهذا المشروب السحري¡ الذي بات يغير طعومه ونكهاته على الدوام!
وتعتبر بلادنا ثاني أكبر مستهلك للقهوة عربياً بعد الجزائر¡ وهي في المركز السادس عالمياً¡ وقبل خمس سنوات (حسب جريدة عكاظ)¡ بلغ ما استوردته المملكة من القهوة المحمّصة (58) ألف طن. ولكي نعرف مكانة القهوة عند الشعوب علينا أن نعرف أنها تدرّ على مسوّقيها مئة مليار دولار سنوياً¡ وتعيش على عوائدها حول العالم نحو (35) مليون أسرة!




http://www.alriyadh.com/1846696]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]