تأجج المشاعر مطلوب¡ ولكن الأهم أن تكون ردة الفعل مذمومة شرعاً¡ مؤطرة بالحكمة¡ وأن يكون الرد على الإساءة لا يراد منه مجرد الانتقام¡ وفي قصة ملك الجبال مع الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم نبراس لنا¡ ودرس أيما درس في التحكم في العواطف..
مما لا يشك فيه مسلم أن الإسلام هو دين العدل¡ وشريعته هي شريعة الإنصاف¡ والعدل هي الكلمة التي حرصت المجتمعات ككل على الانتساب إليها ورفعها كشعار تتعامل به في أوساطها¡ غير أن كثيراً من المسلمين وقف عند هذا الحد من التعريف بدينه أو بالتعامل مع غيره¡ وقد يجد من الآيات والآثار ما يعضد مفهومه حين يجردها من المفهوم الأعم الذي يرتقي بنا إلى مرتبة تفوق مرتبة العدل بمراحل وهي مرتبة الإحسان¡ وكل مرتبة من هاتين المرتبتين لها ثمارها العاجلة والآجلة¡ وقد يخطر على بالنا في كثير من المواقف التي تواجهنا في الحياة وبالأخص في العداوات والخصومات قول الله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"¡ هذا ولا شك فيه أنه هو العدل عند بلوغ القلوب الحناجر من الأذى¡ وعجز الصدر عن تحمل الإساءة من الآخرين¡ وربما يحسن بنا في هذا المقام التذكير بأن الآية بدأت بأداة الشرط التي تحتمل الامتناع عن ردة الفعل أصلاً¡ ورغّبت في آخرها بترك العقاب عن الإساءة لما فيه من مصالح عظيمة¡ والمتيقن منها هو الأجر العظيم في الآخرة "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".
وأما ما يتوقع من ثمرات الصبر في الدنيا فكثيرة جداً¡ ولأجل ذلك جاء الأمر والندب بالإحسان ومقابلة الإساءة بالعفو¡ وبما هو أكبر من العفو "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".
وقد يطول المقال كثيراً إذا ما ضربنا الأمثلة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في العفو والصفح¡ فكم أساء إليه المسيئون¡ وكم اعترض طريقه المؤذون¡ وهو يقابلهم بالعفو والإحسان¡ بل ويعترض صلى الله عليه وسلم ويغضب على من يستأذنه في الدفاع عنه صلى الله صلى وسلم بالمثل والمعاقبة¡ وكم هي المرات التي قال فيها عمر رضي الله عنه في مثل هذا المقام: "دعني أضرب عنقه يا رسول الله"¡ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستثمر الإحسان في هكذا موقف¡ وكانت النتائج كما يعلمه المسلمون من دخول الناس في دين الله¡ وفي التنزيل الحكيم نُهي المسلمون عن الأفعال والأقوال التي تستثير وتجلب الإساءة للدين وللمسلمين¡ ومن ذلك ما جعلته عنواناً للمقال "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله"¡ وهي آية صريحة في تجنب استثارة ردات فعل الجاهلين فيسبوا الله بغير علم¡ مع أن سب الآلهة التي تعبد من دون الله على أي وجه لا يخرج عن الحقيقة¡ ومع ذلك نهينا عنه لما سيترتب عليه من الأثر السيئ.
وفيما نحن فيه في هذا العصر مع تشابك المجتمعات وتقاربها بل واختلاف تركيباتها عن ما كانت عليه قبل¡ نجد أن لا شيء يخفى¡ فمجرد كلمة أو رسم تفعله نكاية وعقاباً وردة فعل كدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون محسوباً ومدوناً على المسلمين ككل¡ ولأجل هذا وجب على المسلمين أن تكون ردات فعلهم محسوبة ومدروسة وفقاً للشرع¡ بعيدة عن مقابلة الرسم بالرسم والإساءة بالسباب والشتم¡ وليكن دفاعنا عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وفقاً لما تقرره الهيئات الشرعية الرسمية استناداً إلى النصوص والأدلة الشرعية¡ ونحن في بلدنا قد حظينا بولاة أمر وهيئات شرعية رسمية¡ تتدارس كل حدث بمسؤولية وحكمة¡ وترد بالإحسان في المواضع التي يجدي الإحسان فيه نفعاً¡ وبالعدل في المواقف التي تقتضي معاقبةً وعدلاً¡ وينبغي لنا أن نأخذ من الأحداث المتشابهة والمتتالية دروساً نبني عليها ردات الفعل في كل حدث¡ ونجعل العاطفة الفردية تبعاً لمقتضيات النصوص والأدلة الشرعية وليس العكس.
وتأجج المشاعر مطلوب¡ ولكن الأهم أن تكون ردة الفعل مذمومة شرعاً¡ مؤطرة بالحكمة¡ وأن يكون الرد على الإساءة لا يراد منه مجرد الانتقام¡ وفي قصة ملك الجبال مع الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم نبراس لنا¡ ودرس أيما درس في التحكم في العواطف¡ وقد تأسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيوسف عليه السلام حين فتحت له مكة¡ فقال لأهلها كما قال يوسف لإخوته: "لا تثريب عليكم اليوم". ولكي نصل إلى موقع نستطيع منه أن نكون الأعلى ونملك المقدرة لنعفو عن المذنب¡ فإن المسيرة تحتاج إلى عمل دؤوب وصبر ودعوة بحكمة وموعظة حسنة وجدال بالتي هي أحسن¡ واستعمال الطرق المشروعة للوصول إلى تلك الغاية من نصرة الله ورسوله "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". هذا¡ والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1852054]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]