حتى قبل وفاته بسنوات¡ كان والدي -رحمه الله- يشتري في كل صيف إنتاج بلاد "مزرعة" من بلدان المدينة المنورة¡ وهذا الشراء يجعل أسرتنا الصغيرة كلها تنزح من وسط المدينة إلى ريفها طوال فصل الصيف¡ وفي "البلاد" كنا ننعم بالجو اللطيف والخضرة والسباحة في البركة.
وشراء الصيف أو إنتاج "البلاد" يعني الالتزام بأجور العاملين فيها¡ من الفلاحين إلى الموانات (مفردها: موانة¡ وهن النساء اللاتي يقمن بحش الخضروات والبرسيم¡ وهن في الغالب¡ من زوجات وبنات الفلاحين). وحال شراء منتوج "البلاد" يشرع العمال في جمع البلح¡ ثم الرطب¡ ثم التمر¡ ويتم يومياً بواسطة سيارات أو حمير¡ توريد ما يتوفر من الإنتاج إلى الخان (سوق الخضار واللحوم) حيث يتم الحراج عليه¡ وكان والدي يختص نفسه بكمية من هذا المحصول¡ يوزعها على أهله وأصدقائه¡ وعندما يصل الصيف إلى منتهاه يبقى التمر¡ حيث يتم بيع أغلبه في الحراج¡ وما يتبقى كنا نأخذه معنا عند العودة إلى منزلنا¡ لنبدأ بعد أيام في مهمة يطلق عليها "ترقيد التمر"¡ ويتم هذا الترقيد بعد تنظيف التمر وفرز كل نوع منه على حدة¡ ووضعه ليوم واحد مفروشاً على السطح¡ وفي اليوم التالي يتم رصه في أوعية خاصة من الصفيح¡ بعد إضافة السمسم وحبة البركة عليه¡ وتبقى بعد ذلك أوعيه الصفيح بتمرها لعدة أيام فوق السطح¡ نبدأ بعدها في استخدامه¡ ومن الأبناء من كان يصعد ويتربع على السطح بجانب وعاء التمر¡ لكن الغالب تعبئته في أوعية صغيرة ووضعها في المجلس أو المطبخ¡ ليستخدم مع القهوة أو بدونها.
وكان استخدام التمر شائعاً عند أهل المدينة من الفلاحين وأبناء البادية¡ ومن حرص هاتين الفئتين¡ فإنهما يجمعون نوى التمر¡ ويذهبون به إلى سوق الحبابة¡ حيث يقايض هذا النوى بالملح أو الحبوب¡ والباعة في سوق الحبابة يقومون بدورهم¡ ببيع النوى بالكيلة على فئات من الناس¡ يقومون بوضعه في براميل خاصة مغموراً بالماء ليوم أو يومين¡ يجرى بعدها تصفية النوى وتعبئته في أكياس من الخيش¡ والذهاب به إلى طاحونة خاصة تتولى جرشه¡ وبعد عصر كل يوم يجلس البائع وقد كوم أمامه هرماً من النوى أو الفصم (التسمية الشعبية)¡ وبجانبه مكيال حسب الوحدات القديمة (مد¡ صاع¡ نصف صاع¡ ربع صاع)¡ ويقبل على شراء هذا النوى المجرش المخمر مربو الأغنام والخرفان¡ وقد قيل: إن هذا النوع من النوى مدر للحليب¡ وكان أغلى من الحشيش والبرسيم والشعير¡ وقد اختفى الآن¡ لتيسر أمور الناس المادية.
كان الناس في الأيام الخوالي يستفيدون من كل شيء في النخلة: الخصف¡ الجمار¡ التمر¡ النوى¡ وقد قيل: إنه بعد الزهد في تقديم النوى للأغنام¡ أصبح يستفاد منه في عمل "قهوة النوى"¡ وهي مثل قهوة البن¡ والشعير¡ والقشر! وفي المدينة المنورة¡ كانوا إذا أرادوا إسكات شخص مهزار¡ يقولون له: كل فصي! أو فصم (النوى المجروش)¡ قياساً على المواشي المجترة¡ التي تحرك فمها ليل نهار¡ اعتماداً على مخزونها الاستراتيجي من علوق النوى!




http://www.alriyadh.com/1853060]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]