قبل الموعد المحدد كان كامل الشناوي ينتظر عند باب الدكان وهو في دوامة الأسئلة التي تكاثرت عليه فما يدري بأي منها ستكون البداية اليوم حيث ظل طوال ليله وهو يكتب ويشطب ويضيف ويعدل¡ وفجأة وقف بجانبه أبو نواس وقبل أن يفتح الخادم الدكان قال أبو نواس: سألتني بالأمس من أنا¿
قلت: فعلا من أنت¿!
قال: ومن أنت¿
قلت: أنا قارئ لأشعارك¡ وأطمع أن أعرف عن حياتك¡ وعقيدتك وسلوكك الشخصي.
قال: هل هذا أمر مألوف عندكم¿
قلت: هو أمر مألوف جدا¡ ولست أريد منك أكثر من حديث!
قال: إن الحديث لا يقوله إلا نبي!
فأوضح الشناوي أنه لا يقصد الحديث الشريف¡ فكان تساؤل ابن هانئ.
قائلا: وهل تريد حديثا غير شريف¿!!
فأدرك أن ضيفه لم يستوعب لفظة تعني شيئا غير ما يعرفه وجرت التسمية عليه.
قلت: أريد أن أحصل منك على حديث صحفي¡ وهذا ما يجري عليه العرف في أيامنا هذه.
قال: أيامكم تختلف عن أيامنا يا بني¡ لقد كنا نهجو الرواة¡ ونقول إنهم «صحفيون» ينقلون رواياتهم من الصحف.. أي الكتب المُصَحّفة المحرفة¡ ولا ينسبونها إلى مصادرها¡ وقد طلب مني أستاذي «خلف الأحمر» أن أرثيه قبل أن يموت فمدحته قائلا:
فكل ما نشاء منه نغتــرف
رواية لا تجتنى من الصحف!
فيظهر أن ما كان عندنا عيبا أصبح عندكم مزية¿!
قلت: إن الصحف والصحافة في هذه الأيام غير الصحف التي أخبرتني عنها¡ وحاولت أن أشرح له مهمة الصحافة الحالية¡ غير أنه أفهمني أن حالته الذهنية لا تسمح له بالخوض في أمور لا يعرفها¡ وأنه فهم مني أن ما أريده هو سؤال مني وجواب منه.
كمحقق رسمي بدأت:
س- متى ولدت¿
ج- في سنة 140
س- من هو أبوك¿
ج- هانئ¡ عربي شجاع كان جنديا في جيش مروان¡ وفي الأهواز تعرف على أمي «جلّبان» وترك الجيش¡ واشتغل في حياكة الملابس ورعي الغنم¡ فلما مات تزوجت أمي رجلا يدعى العباس ونقلنا للبصرة واتخذتها وطنا لي.
س-ولماذا سميت أبو نواس¿
أخذ ينظر إلي في ما يشبه الرّيبة¡ وبادلته النظرة التي تحمل نحوه المودة بمشاعري تجاهه وما يشعره بأنني أحبه كما شعره¡ وأنني شاعر في بداية ممارسة الشعر يريد أن يستفيد من أستاذه¡ ويعرف عنه كل شيء كما أودّ أن أترسم خطاه إن هي كما تخيلتها وقرأت الكثير عنها¡ وكان لمعظمها تأثيره الطاغي في الإعجاب¡ فتبسم وهو يتهيأ للرد.
ج- سميت بأبي نواسº لأن أستاذي «خلف الأحمر» كان عالما بالأنساب. وقد هداه البحث إلى أني من «اليمن»¡ أنحدر من صلب وجيه من وجهائها وكان لكل وجيه كنية¡ فهذا ذو المنّة¡ وآخر ذو الحكمة¡ وهذا ذو نواس¡ وأعجبني الأخير فاخترته¡ ولكن الناس أرادوا أن تكون كنيتي أبا نُواس¡ وكان ما أرادوا.
س- الذي أعرفه أن أستاذك هو «والبة بن الحباب» وليس خلف الأحمر¿
ج- خلف أستاذي في العلوم¡ أما في الشعر فأستاذي الذي علمني الشعر هو «والبة بن الحباب» ليس غيره!
س-يقال إنه علمك الفسق!
ج- مع الشعر أيضاً.
وبيَّن أن من علمه الفسق كانت له مكانته المرموقة في عالم الأدب¡ وكان الشاعر والراوية الشهير الذي يستولي على المجالس التي تقام سواء ما يدخل في الرسميات أو السّمر الشائع في ذلك الوقت¡ وقد كان إعجابه به إلى حد كبير فقربه منه وصحبه حتى يعرف ويتعلم منه كيف يكتب الشعر أو يقوله¡ فيبادره «الشناوي»
س- كيف كان ذلك¿!
ج- كنت أعمل صبياّ (خادماَ) في دكان العطار «الحسن بن سليمان» وكنت جميلا حسن الصورة¡ وكانت أمي لم تعجبني سلوكياتها¡ فهجرت البيت وأقمت مع الحسن في بيته¡ وكان يعاملني معاملة الأب لابنه¡ ويحبني حبا عميقا¡ وذات يوم جاء مندوب من «أبي بجير الأسدي» حاكم الأهواز يدعو الحسن للعمل في داره وصحبني معه¡ وكان لقائي بـ «والبة» وهو ابن عم الحاكم جاء من الكوفة ليزور الحاكم¡ فلما رآني أعجب بي وقربني منه¡ وقد كنت أميل إلى الشعر وأحفظ من شعره الكثير¡ ولم أكن أعرف شخصه¡ فلما عرفته أقبلت عليه بكل جوارحي¡ وقد اتفق معي على أن أصحبه إلى الكوفة في غفلة من الحسن العطار.
س- كيف استطاع أن يغريك بالذهاب معه¿
ج- قال لي: «أرى فيك مخايل فلاح¡ وأرى لك ألا تضيعها وستقول الشعر فاصحبني» فقلت جعلت فداك في طلبك¡ لقد كنت أردت الخروج إلى الكوفة¡ وإلى بغداد من أجلك¡ وسألني لماذا تطلبني¿
قلت: شهوة للقائك¡ والأبيات التي سمعتها لك¡ فقال: وما هي الأبيات¿ فأنشدت منها:
ولها - ولا ذنب لها- حب كأطراف الرماح
جرحت فؤادك بالهوى فالقلب مجروح النواحي!
س- هل كان والبة يحب جمالك أم شعرك¿
ج- جمالي وشعري ألا تعرف قصته مع شعري¿
س- ما هي تلك القصة¿
ج- كنا في الكوفة في مجلس أُنْس ٍوطَرب استمر حتى الصباح وأعجبتني إحدى العازفات من المغنيات فقلت منشدا:
حامل الهوى تعـب يستخفه الطرب
إن بكـــــى يحــــق له ليس ما به لعب
تضحكــــــين لاهـــية والمحب ينتحب
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
وفي اليوم التالي كان عند والبة جَمْعٌ من الشعراء فقال: «كنت بالأمس نائما وأبو نواس بجانبي فأتاني آت في المنام وقال: أتدري من هذا النائم بجوارك¿ قلت: لا. قال: هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس¡ أما والله لأفْتِنَنّ بشعره المشرق والمغرب..»
س- وما قصة غرام والبة معك¿!
ج- دعها الآن ..
س- قد أكون أحرجتك بسؤالي¿
ج- لاشيء يحرجني..
س- ربما ضايقتك¿
ج- كيف (وهو يبتسم) وأنا القائل:
أطيب اللذات ما كان جهارا..
ولكني تعبت فأمهلني إلى غد¡ سنتكلم عن والبة وغرامه بي أنا وعن شعره وزندقته¡ وأستاذيته لي في الشعر والزندقة.
تعمدت أن لا أتدخل في الحوار¡ وأن يكون كما هو مدون من قبل الشاعر كامل الشناوي لتكون الصورة واضحة وروح الشناوي الشاعرة تتحرك ما بين السطور ومعها على الوجه الصحيح. والحديث طويل بينهما وهو شيق وممتع لما للشاعرين من مكانة في الأدب العربي القديم المتجدد¡ والحديث المواكب¡ فكلاهما شاعر وآثارهما وبصماتهما في الشعر العربي لها سمتها التي حافظت على استمرار الكتابة عنهماº لكون كل واحد منها كان يتعامل بصدق مع شعره ومشاعره فاستحوذا على إعجاب المهتمين بالشأن الإبداعي وخاصة الشعر النابض بالحياة دوماً.




http://www.alriyadh.com/1853206]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]