منذ ثلاث سنوات بالضبط¡ جاءني اتصال من صديقتي الدكتورة أنيسة داودي من جامعة بيرمنغهام¡ لحضور ورشة مع ضحايا الإرهاب في الجزائر بعد عشرين سنة من نهاية تلك الأحداث السوداء¡ تمّ التحضير للأمر في سريّة تامة¡ مخافة حدوث أي طارئ يعطّل مهمتنا¡ إذ لم أكن الوحيدة المشاركة في تلك الورشة¡ فقد قَدِم كُتّابٌ وإعلاميون من عدة بلدان لجمع تلك الشهادات.
تمت الورشة الأولى في نوفمبر 2017¡ والثانية بعد سنة تماماً في الشهر نفسه¡ خلاصتهما هي: أنّ النجاة من هول الجرائم التي حدثت لا تعني النجاة من ذكرياتها المفجعة.
من بين الحضور جاء الكاتب سعيد خطيبي من سلوفينيا¡ وهو أكثرنا تفرغاً للكتابة¡ غير تجربته المكثفة في خوض تجربة "الأدب البديل الحقيقي" القائم على المُعاش لا على المتخيّل¡ فقد وثق بأسلوبه الأدبي لقصص كثيرة خلال تغطياته لمناطق نزاعات في أوروبا الشرقية وإفريقيا¡ كما سجّل حوارات مهمة لأشهر الكتاب الفرنكفونيين نشرها في كتاب بعنوان "عبرتُ المساء حافياً".
أنهى خطيبي مشروع الورشة¡ وقدّمه للقارئ تحت عنوان "حطب سراييفو" رابطاً بين الأحداث التي عاشتها الجزائر وتلك التي عاشتها سراييفو¡ وقد قادته حاسّته الإبداعية إلى سؤال مخيف¡ يمكن اعتباره "سؤال السّاعة": "لماذا أصبح تجنيد الشبان المسلمين في حروب تخوضها السياسات العالمية عملية سهلة¿" إذ بسهولة يحمل شاب جزائري أو تونسي أو غيرهما حقيبته ويغادر -بكل انفعالاته الدينية الصادقة- عائلته¡ ووطنه¡ ليقاتل في بلاد أخرى لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد¡ تنتهي الحرب فيعود معطوب النفس إذا لم يمت خلال القتال.
رحلة البحث عن البؤر الساخنة لا تفسير لها¡ خاصة للذين يعيشون في عواصم العالم الأكثر تطوراً وتحضراً¡ إنّها مغامرات تقوم على العاطفة الجيّاشة التي يُكِنُّها المسلم لدينه¡ لكن لماذا ارتبطت هذه العاطفة بفكرة الذهاب للموت¡ وليس بفكرة زرع بذور الحياة وبلوغ السلام الداخلي والطمأنينة التي يقوم عليهما الإسلام ¿
آلاف التجارب الإنسانية يبتلعها الصّمت¡ مُبقية مفاتيح محنتنا جانباً¡ دون أن نستفيد منها لمعالجة أزمتنا الحقيقة¡ لكنّ لعلّ بارقة أمل تنبعث اليوم من "الأدب البديل"¡ باعتباره الخيار الوحيد الممكن¡ ذلك أن الحركة الأدبية اليوم أصبحت متأثرة بشدة بكل ما يصلنا عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من قصص مصوّرة¡ وهذا ليس في صالحنا كمجتمعات لاتزال تعتمد الهروب بدل المواجهة¡ والإنكار بدل المثابرة على التغيير.
إنّ الرّهان اليوم أصعب من أي وقت مضى¡ كون البدائل الإلكترونية للأدب تكتسح الأدمغة وتعطّلها¡ وهي ليست بالأدب البديل الحقيقي كما نرغبه نحن¡ فحالما تخرج قصص الواقع المخبأة بإحكام في خزائن الخوف سيكتسب الأدب مصداقيته من جديد¡ ووهجه بالتأكيد¡ وهذا ما يمكن لمسه في رواية "حطب سراييفو" والأعمال المشابهة التي قامت بصياغة المحنة المروية إلى أدب.




http://www.alriyadh.com/1853211]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]