لجوء الإنسان إلى الترجمة¡ واحتمال متاعبها وأعبائها¡ دليل وأي دليل على حاجته إلى غيره¡ وعدم اكتفائه بنفسه¡ ولو كان الإنسان قادرا أن يعيش وحده¡ والأمة مستطيعة أن تستغني بنفسهاº لما كان للترجمة تاريخ يُصاحب تاريخ الإنسان¡ ويخطو معه خطوة خطوة..
الترجمة مفهوم قديم¡ ومصطلح غابر¡ ركبه الإنسان في تأدية ما في نفسه إلى غيره¡ فأعرب عن أفكاره¡ وترجمها باللغة إلى من حوله¡ ومضى شوطاً أبعد حين ترّقت حاله وتفتحت مداركه¡ فكلف بأفكار الأمم المجاورة له¡ ينقلها إلى أبناء بلده¡ يشحذ بها هممهم¡ ويُنير بصائرهم¡ ويُطْلعهم على ما ليس عندهم.
ولجوء الإنسان إلى الترجمة¡ واحتمال متاعبها وأعبائها¡ دليل وأي دليل على حاجته إلى غيره¡ وعدم اكتفائه بنفسه¡ ولو كان الإنسان قادرا أن يعيش وحده¡ والأمة مستطيعة أن تستغني بنفسهاº لما كان للترجمة تاريخ يُصاحب تاريخ الإنسان¡ ويخطو معه خطوة خطوة¡ ولا أحسبني أَبْعُد عن الصواب إذا قلت: إن الترجمة أظهر براهين حاجة الأمة لغيرها¡ وهي في الآن نفسه أدلّ الدلائل على يقظتها ونهضتها¡ وعلى مقدار عناية الأمة بها¡ واجتماع أفرادها حولها¡ تستطيعُ أن تتنبأ بما ينتظر الأمة ويقف في طريق أبنائها.
الترجمة تكون حلّا للتحديات التي تُواجه الأمة¡ ومفتاحا للأقفال التي استعصت عليها¡ من خلالها يعرض المترجم على أبناء وطنه: كيف عالج الآخرون المشكلات التي واجهتهم¿ وكيف استطاعوا أن يصنعوا المفاتيح للأقفال التي أعيتهم¿ إن البشر¡ وإن اختلفت ديارهم وتناءت أوطانهم¡ تجمعهم المشكلات¡ وتُوحّد بينهم الآمال¡ والترجمة في دلالةٍ من دلالاتها تُظهر هذا المعنى¡ وتكشف عنه¡ وما كان للترجمة أن تقوم سوقها لولا ما يُمكن أن يُطلق عليه (وحدة المشاكل والآمال) البشرية¡ وهي وحدة أدركتها الأمم¡ ووعى بها علية أفرادها¡ فكانت ثمرتها أن نُقلت العلوم¡ وتُرجمت الآداب¡ واقتُنصت الأفكار¡ ومضت الأمم كلها فيها على سنة واحدة وطريق لا يختلف¡ ومن رام أن يسير هذه السيرة¡ ويقتدي بالأمم فيها¡ وهي حريّة أن يُقتدى بها¡ فعليه أن يُيَمّم وجهه شطر الترجمة¡ ويأخذ كما الأممِ الفتيّة نصيبه منها.
والمترجمات تُبين عن الأمة وأفرادها¡ وتُفصح عن همومها وآمالها¡ ويصح أن يقال: إن الأمم تُعرف من ترجماتها¡ وتقيم بها¡ وتُوزن من خلالها¡ ولو دُرست الأمم من خلال ذلك لما كان واقع الأمم أدلّ عليها وأكشف لخصال بنيها من الترجمة وجهودهم فيها¡ فعلى أهل الخليج¡ ومنهم أهل هذه البلاد الطيبة¡ أن يُعلوا من شأن الترجمة¡ ويتّخذوها حجة على الإحسان ودليلا عليه¡ وسببا من أسباب معرفة الناس وتفانيهم في خدمات تخصصاتهم التي بعثتهم دولهم لها وأنفقت عليهم من أجلها.
والترجمة أيضا تدلّ على الوفاء¡ وتُفصح عنه¡ وتُري المرء قيمة المعلمين¡ وإخلاص المتعلّمين¡ ومن تتلمذ على غير أهل لغته¡ وأخذ عنهم¡ وانتفع بما عندهمº فجدير به¡ إن لم يتنكر لفضلهم¡ أن ينقل ما حسن عنده من كتبهم¡ ويُفيد لغته وأهلها بشيء من علومهم¡ ويسعى جهده أن يُري قرّاءه: كيف بنى نفسه من خلالهم¡ وانتهى إلى ما انتهى إليه من علم وخبرة وجودة فكرة¿ وعلى أهل الخليج كافة¡ وهذا رأيي أنصح به وأُشدد على الأخذ به¡ أن يجعلوا الترجمة لمن بعثتهم دولهم¡ وأنفقت عليهم¡ وأقصد أكاديميي الجامعات¡ شرطا لازما في وحدات الترقية¡ لا يجوز لأحد أن يصعد من درجة إلى أختها إلا بها¡ ولا يحق له أن ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد تقديمها¡ ومن لم يُفصح عن فضل أساتذته عليه¡ ويعترف بما اجتناه منهم¡ فهو إما جاحد لفضلهم¡ وإمّا متكبر عليهم¡ وهذا وذاك لا يصلحان في الجامعات¡ ولا ينفعان فيها.
وعلى الأمة أن تجعل الترجمة معيارا من أهم معايير أفرادها الذين درسوا في الغرب وتتلمذوا على رجاله¡ فمن وجدته وفى لأساتذته¡ ونوّه بالترجمة عن فضلهم عليهº شكرت له وأثابته¡ ومن بخس حقهم عليه¡ وأدار لفضلهم ظهرهº لامته وشددت في الأمر عليه¡ فذاك واجب من واجبات المتعلم¡ وفرض من فروضه¡ عرفناه في تراثنا¡ وقرأناه في كتبه¡ وإنّ من أعظم ما تُصاب به الأمة أن يغفل مَنْ توسّمت فيه الخير من أبنائها عن هذه الواجبات ويجهل تلك الفروض!
إن الترجمة ثغرة في ثقافتنا¡ ونُدبة في جبينها¡ يشاهدها المرء حين يزور مكتبة¡ ويُقلّب المترجمات على رفوفها¡ مُدققا في أسماء القائمين عليها¡ فيدهش حين يرى قلة أبناء بلده¡ ويعجب ولات ساعة عجب من غياب كثير منهم عنها¡ ويحق له لو أراد أن يُوجّه هذا السؤال إلى عامة السعوديين¡ الذين درسوا في الغرب¡ وأفادوا من علومه¡ واكتسبوا الدرجات بها: أين ترجماتكم للعلوم التي جئتم متخصصين بها¿ ألم تفخروا أنكم من أهل هذا العلم أو ذاك¡ ألا يقودكم الفخر بهذه العلوم أن تُطلعوا أُمتكم السعودية بترجمة أهم مصادرها عليها حتى تعرفها وترى ما فيها¿ أليس واجبكم الأول أن تُخبروا الأمة¡ وإنما بعثتكم لتحصيل العلوم والمجيء بها¡ عن علومكم قبل أن ترفعوا لها شهاداتكم¿!




http://www.alriyadh.com/1853391]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]