من مجلبات الراحة اتساق الإيقاع¡ ومن المعروف أن الزمن مرتبط بالإيقاع¡ وبذلك يكون هناك إيقاع داخلي نفسي مرتبط ببيئة الفرد منا¡ وإيقاع خارجي وهو إيقاع المحيط من العمل والأسرة والفن وكل المدخلات¡ وعليه فلابد من اتساق الإيقاعين الداخلي والخارجي لنكسب تلك الراحة المنشودة..
سؤال يحير الكثير من البشر: كيف يمكن الوصول لما يسمى بـ(الراحة)¿ ونعتقد أن الشعور بالراحة¡ هو انبساط النفس¡ وللمصطلح الدارج في العامية العربية نجد كلمة (الانبساط) أي جزء من الإحساس بالسعادة وإن كانت مؤقتة¡ ولكننا نعتقد أنها كلمة جاءت من الانبساط إلى الإحساس المسطح المستوي للنفس¡ وبلا أي أبعاد مؤطرة من الأبعاد الخمسة للنفس البشرية (الاجتماعية¡ والسياسية¡ والثقافية¡ والنفسية والفيزيقية أيضاً) ومن هنا كان الإحساس بالانبساط هو الحس المشترك بين جماعة ما بالأفق العام المشترك والممتد معنوياً إلى أبعد مدى آخذاً من الأفق المادي معناه على امتداد البـــصر! تلـــك اللحـــظة التي يمضي فيها أحدنا مباشرة إلى الاقتناع أن الراحة مكنونة في قلب الكائن منا¡ وأنه ينبغي علينا أن نشعر بها في صميم كياننا بالذات وحتى على مستـوى الواقع الزماني الذي يستند إليه وعينا.
في هذه اللحظة أتذكر بعضاً من فلسفة الزن اليابانية¡ وكيف يتم الاستغراق في تأمل عنصر من العناصر التي تحت بصره حتى يتلاشى إلى اللا شيء¿ وهي ما تقارب في سلوكنا ما يسمى بـ(السرحان)¡ والكلمة نفسها "سرح" تأتي مشتقة من سروح الجبال وسرح الماشية فيها علو الهضاب والتلال¡ ومنها أيضاً جاءت كلمة مسرح¡ إما من تلك المدرجات اليونانية التي تسرح بها الأغنام ويتخذها النظارة مدرجاً للفرجة حين اللعب المسرحي¡ وإما أنها من تلك اللحظات التي تأخذنا بعيداً عن ذواتنا لحظة الفرجة والاندماج.
هذه الرياضة النفسية اليابانية (الزن) هي أقرب إلى رياضة اليوجا¡ ومهما تعددت المسميات إلا أن كل ما يهمنا هو استلال الروح من بين براثن الأشواك الزمنية المعذِبة للنفس والمثقلة بأعباء الفكر وشدة المسؤوليات بتعدد مستوياتها.
كنت قد عملت على بحث ميداني متقصية مكامن تفتق الراحة النفسية¡ والتي لها علاقة وثيقة بالإبداع الذي هو شغلنا الشاغل¡ وذلك بمناقشة كبار المبدعين فالفنان التشكيلي الكبير صلاح طاهر -رحمه الله- قال لي: لن أستطيع أن أدخل مرسمي حتى أدخل خلوتي لو لبضع دقائق¡ فأسترخي حتى أشعر أنني طائر محلق في الفضاء معانداً كل تجاذبات الجاذبية الأرضية¡ حينها أشعر بالراحة¡ وأدخل مرسمي فيأتيني خيال لا أعرف منبعه.. أما الكاتب الليبي الكبير الأزهر الإحميد -رحمه الله- فيقول لي: إنني أركز في شيء ما حتى يتلاشى وبعدها أتجلى وأكتب.
ومن خلال كثير من المعطيات تجلت لنا أن هذه الطقوس التي يتخذها المبدعون لا تخصهم بشكل خاص وإنما تخص كل منا¡ إذ علينا أن نصل إلى مكامن النفس في عمقها الدفين وبكل الوسائل حتى نصل إلى مايسمى بـ(الراحة) وقد نسميها نحن (الانبساط) بمعنى عام.
يقول في هذا الشأن غاستون باشلار في كتابه جدلية الزمن: "لماذا لا نعتبر أن الأفعال السلبية والإيجابية مهمة أيضاً¿ بما أننا كنا نزعم المضي بأسرع ما يمكن إلى الصميم الذاتي للمسألة¡ فقد كان لابد من تأسيس جدلية الوجود في الزمان".
هذه الجدلية التي نعنيها وقد لا يعنيها غاستون هي محاولة الهروب من الزمن¡ وبمعنى آخر هي محاولة إيقاف الزمن الكامن بدواخلنا حتى نجعله نقطة واحدة لا تعني شيئاً سوى الهروب من قبضة الزمن نفسه بما يحويه من أغلال الواقع المكبل للذات وللوعي نفسه¡ بما يجعل هذا التأمل يختصر مفهوم الأشياء ما كان يمكنه التطابق إلا مع نظرة إجمالية تختصر التنوع الزمني لكل الأشياء.
ومن مجلبات الراحة أيضاً اتساق الإيقاع¡ ومن المعروف أن الزمن مرتبط بالإيقاع¡ وبذلك يكون هناك إيقاع داخلي نفسي مرتبط ببيئة الفرد منا¡ وإيقاع خارجي وهو إيقاع المحيط من العمل والأسرة والفن وكل المدخلات¡ وعليه فلابد من اتساق الإيقاعين الداخلي والخارجي لنكسب تلك الراحة المنشودة¡ وسأسوق مثالاً على ذلك: حينما يذهب الفرد منا إلى أجمل بقاع الأرض ويشاهدها بكل زخرفها وزينتها وبهائها وملذاتها¡ لكنه سرعان ما يتملكه الضجر ويرغب في الرحيل إلى مكانه الذي أتى منه¡ وهذا لأن الإيقاع الداخلي الذي تكون من مكانه الذي اعتاد عليه لم يتسق مع الإيقاع الخارجي للمكان الذي وفد إليه¡ ويجرنا ذلك إلى المسرح¡ حينما يشعر المشاهد بالملل من العمل المسرحي¡ ويرغب في المغادرة على الرغم من جودة العمل فنياً¡ وهذا فيما تعلمنا أن إيقاع العرض المسرحي لم يتواءم مع الإيقاع العام والنفسي لدى الجمهور¡ وكان على المخرج أن يدرج الإيقاع النفسي لكل جمهور على حدة¡ فقد يتناسب العرض مع بيئة بعينها ولا يتناسب مع أخرى لاختلاف الإيقاع الخارجي والداخلي¡ وهذا يصب في موضوع المقال وهو الحس الدفين بالراحة.
إن كل ما يهمنا في هذه السطور¡ هو مساعدة قرائنا على كيفية الوصول للراحة والانعتاق من ضغوط الزمن¡ وخاصة في يومنا هذا الذي أصبح فيه التوتر سمة تطارد الكبير والصغير¿ وهذا ما يؤثر على بيئة العمل¡ والإنتاج¡ والحياة الأسرية¡ والإبداع¡ وكل مناحي الحياة.




http://www.alriyadh.com/1854533]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]