هم لو سلموا من السياق البشري العام¡ والسلامة منه عسيرة¡ لكان لهم فهم آخر لحديث الذهبي¡ ولكنّهم تَلَقّوه والأذهان مشغولة بغيره¡ ومملوءة بما يُضادّه¡ والإنسان ابن ثقافته¡ فلم يحملوا كلام الشيخ على ظاهره¡ ولطالما كانوا أنصار الظاهر ودعاته¡ يحتجون به ويُرغمون خصومهم عليه..!
في التراث نصوص كثيرة¡ تنتقد المرأة وتعيبها¡ وكنتُ كتبتُ عن ذلك في سالف الأيام¡ ويستطيع القُرّاء (فُعّال جمع تكسير لفاعل صحيح اللام وفاعلة وإن كان فيها نادرا) الإطلالة على تلك المقالات في الصحيفة¡ ولم يكن ذا بمستغرب والرجل يعيش حالة مد وجزر مع المرأة¡ وهو قبل هذا وذاك المدون الوحيد لثقافة العصور! فلقد اجتمع أمران يدعوانه إلى ما نعيب عليه: الأول النفوذ الثقافي¡ والثاني التجاذب الاجتماعي¡ إنّ الذين يعجبون من صنيع الرجل مع المرأة هم أنفسهم يُعيدون ما صنعه الرجل مع مخالفيهم¡ ولكنهم كما قيل يُبصرون القذى في أعين الناس¡ ويغفلون عن الجذع في عيونهم¡ أو كما قالت العرب: خَرقاء عَيّابة¡ تذهل عن عيوبها¡ وتُغرم بزلّات غيرها¡ وإلى هذه الخصلة البشرية العامة تعود معظم التحديات¡ والظاهر من تاريخ الإنسان أنها مستعصية على الحل¡ وفي هذا السياق يُمكن قبول هذه القضية: التاريخ يُعيد نفسه!
ليس بمستبعد عندي أن يكون التراث الإنساني الذي هُجيت فيه المرأة¡ وما فتئت الثقافات تبتعثه من مرقده¡ هو ثمرة غيابها عن المشهد¡ وندرة دورها التدويني فيه! إننا اليوم نجد كثيرا من المفكرين والعلماء قديما وحديثا كانت بينهم تنافسات وصراعات¡ دعتهم إلى التهاجي والتناقد والتعايبº لكنهم كانوا جميعا يكتبون ويُدوّنون¡ هذا ينتقد وذا يردّ¡ وذاك يعيب وذا ينتصر¡ ومع هذا السجال يبقى لكلٍ أنصارٌ يدافعون عنه ويقفون في الْمُلِمّات معهº فيجد الناس بعدهم هذه المواقف المختلفة فيهم¡ ويدعوهم ذلك إلى التأنّي في الحكم عليهم¡ غير أَنّنا إذا بصُرنا بحال المرأة في التاريخ لم نجد من دافع عنها¡ ووقف إلى جانبها¡ ولم يكن لها من جنسها ناصر ومعين¡ وهذه الحال قضت عليها أن يُروى هجاؤها¡ ويجتمع الناسُ حتى الحكماءُ! على نقله والتندر به¡ ومتى كان هؤلاء الفلاسفة نصيرا لشيء فقد توفّر له ما يُرسّخه ويغرسه في تربة البشر¡ ولم يعد للمتضرر وقد تخلّت عنه القلعة الأخيرة التي كان يُرتجى أن يلجأ إليها ويعتصم بهاº إلا أنْ يستسلم أمام هذه الجحافل الثقافية¡ ويجترّ ما دعت إليه¡ وآمنت به¡ وما حالُ من اجتمعت عليه الناس¡ وتلاقت على لومه الثقافات¿!
لم أكتبْ هذه المقالة لائما¡ ولا خططت فيها حرفا غاضبا¡ وما هذا بسبيل مَنْ همّه أن يُصلح حاضرَه¡ ويرفو واقعَه¡ ويغوص ولو قليلا وراء الأسباب التي جعلت التاريخ هكذا: يقف مع الرجل¡ ويزدري المرأة¡ ثمّ كيف يكون ذاك موقفي وأنا أرى هذه القصة تُعاد عليّ¡ وتُروى في غير المرأة على مسامعي!
هذا السياق البشري العام في الموقف من الأنثى جعل الدفاع عنها¡ والذود عن حقوقها¡ يُواجه باستخفاف وازدراءº لأن مُتَولّيه يُخاصم البشر جميعا وثقافاتهم ويقفز على إجماعهم حتّى صار الثقة الذي يُثني عليها مُستغربا قوله¡ ومؤولا كلامه على غير المدح¡ وشاهدي هنا قول الشيخ الذهبي: "فصل في النساء المجهولات¡ وما علمتُ في النساء من اتُّهمتْ ولا من تركوها" (ميزان الاعتدال في نقد الرجال¡ 7/ 465) فقد حاول بعضهم صرفه عن ظاهره¡ فَحَمَله على أنّ هذا من قبيل الأغلبية¡ وهذا على كل حال لا يُغيّر هذه الْمَنْقبة النسائية¡ أو أن الذهبي قصد بقوله هذا إلى المجهولات اللاتي جعل الفصل لهنّ¡ وما دام مراده المجهول¡ هكذا زعموا¡ فالرجال المجهولون ما عَلِم الذهبي مَنْ اتّهمهم ولا من تركهم! وهذي من غرائب الفهم¡ وعجائب النظر¡ وهم يعلمون أن المحدثين يعدّون جهالة حال الراوي سببا إلى عدم قبول روايته في الجملة¡ ويعلمون أيضا أن الشيخ الذهبي من هؤلاء المحدثين¡ الذين ذهبت جماهيرهم¡ حسب قول النووي في تقريبه¡ إلى عدم قبول رواية المجهول¡ فكيف يكون الذهبي لم يعلمْ مَنْ اتّهم المجهولَ ولا مَنْ تركه¡ وهو أحد شيوخ الصناعة الذين تُقصد كتبُهم وتُؤمّ جهودُهم! ثم كيف يقصد الشيخ النساء المجهولات بهذا الثناء وهو المطّلع على قول المحدثين في المجهول¿ لقد حاولوا¡ وما استطاعوا¡ صرف الثناء عن وجهه تارة بوجود قلة من النساء المجروحات¡ وتارة بأنّ الذهبي لم يتحدث عن النساء عامة¡ وإنما أراد هؤلاء المجهولات¡ وهم لو سلموا من السياق البشري العام¡ والسلامة منه عسيرة¡ لكان لهم فهم آخر لحديث الذهبي¡ ولكنّهم تَلَقّوه والأذهان مشغولة بغيره¡ ومملوءة بما يُضادّه¡ والإنسان ابن ثقافته¡ فلم يحملوا كلام الشيخ على ظاهره¡ ولطالما كانوا أنصار الظاهر ودعاته¡ يحتجون به ويُرغمون خصومهم عليه! وكافيهم في ردّ فهمهم قولُ السيوطي في تدريبه بعد ذكر قول الذهبي: "وجميع مَنْ ضُعّف منهن إنما هو للجهالة" (1/ 272) ولعل لهم بعضَ العذر متى أبصرنا ما يقف وراءنا من هول التاريخ وحديث الناس فيه!




http://www.alriyadh.com/1862027]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]