إذا ما جئت إلى العقل العلمي فستجد أنه يتقبل الجميع دون تفرقة، والعلم إنما يزدهر ويبدع في الأجواء المتسامحة، ولا يمكن أن يكون الطائفي ذا عقلية علمية بحال؛ لأن العقلية العلمية تقوم على المنطقية، والمنطقية تتعارض والطائفية..
يذكر ابن كثير في حوادث (363هـ) من كتاب البداية والنهاية حادثة طائفية عجيبة وقعت في بغداد، ففي جو مشحون طائفيًا، قام جماعة من السنة وتسمَّوا بأسماء بعض الصحابة وانطلقوا لقتال جماعة من الشيعة الذين سمَّوهم بأصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحصل من كلا الفريقين شرٌ وفتنة.
قال ابن كثير تعليقًا على هذه الحادثة: وكلا الفريقين قليل عقل، بعيد عن السداد. وهكذا الطائفية في كل مراحلها زمانًا ومكانًا: لا تصدر إلا عن عقل ضعيف، ولا تصل إلى نتيجة سديدة، وأضيف -أيضًا- أنها تصدر عن نفس مريضة ذات فكر ضال، وأحيانًا تصدر عن نفس جشعة خطيرة تتستر بستار الطائفية لتحقيق مصالح وأطماع شخصية، وهذه الحادثة التي ذكرها ابن كثير تكرَّرت في عصرنا حين قام البعض بعمل محاكمة صورية لشخصيات تاريخية!
وإذا أردت أن تتحدث عن قضية فلا بد أن تحدِّد مفهومها بدقة، حتى لا تتحدث عن مجهول أو في أحسن الأحوال كأنك تتحدث عن موضوع يكتنفه الغموض. الطائفية -في نظري- هي: الإساءة إلى الآخرين فردا أو جماعة، أو انتقاص حقوقهم، بسبب ديني أو عرقي أو غير ذلك من الأسباب ذات البعد العنصري. فالله تعالى خلق الإنسان مكرَّمًا، وحفظ له حقوقه، فلا يجوز أن يتعدى أحدٌ عليها ولا يُنقص منها.
إن الطائفية ممقوتة بالمنطق الشرعي، وبالعقل العلمي، وبالحس الإنساني، فعندما عرض الشاطبي في كتابه "الاعتصام" للتعليق على حديث "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" وهو حديث مختلف في صحته؛ قرَّر الشاطبي أن الأولى عدم تعيين هذه الفرق بأسمائها، وذكر أن من أسباب ذلك السَّتر، وأن تعيينهم يثير الشر، ويلقي العداوة والبغضاء، ثم نقل عن أبي حامد الغزالي كلمة عظيمة، وهي أن: أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال.
هكذا هو ديدن العلماء يكرهون التعصب، ويمقتون التحزب، ويدعون إلى الإنصاف والعدل ومعاملة الناس سواسية.
فإذا ما جئت إلى العقل العلمي فستجد أنه يتقبل الجميع دون تفرقة، والعلم إنما يزدهر ويبدع في الأجواء المتسامحة، ولا يمكن أن يكون الطائفي ذا عقلية علمية بحال؛ لأن العقلية العلمية تقوم على المنطقية، والمنطقية تتعارض والطائفية، "تذكر ابن كثير عندما وصف الطائفيين بأنهم قليلو عقل". ثَمَّ عالمة فرنسية تدعى "جيرمين تييون" وهي رائدة علم السلالات "الاثنولوجيا" وقد نعاها الشعب الفرنسي في شهر أبريل سنة 2008م عن عمر بلغ (101). هذه العالمة وقفت ضد بلدها في استعمار الجزائر، ومن أسباب ذلك أنها تحترم الآخرين، وتقدر حقوقهم، وقالت: (إن ما ساعدني على التنور هو الاثنولوجيا فهذا العلم جعلني منذ البداية أحترم ثقافة الآخرين). إن العقل العلمي يفكر في البناء والإبداع، وتفكيره مستقبلي بدرجة كبيرة، والطائفية بالضد من ذلك تعيش في الماضي لتقتل الحاضر وتلغي المستقبل، ويتوافق مع طرحنا هذا -تمامًا- أحمد زويل العالم المصري الذي فاز بجائزة نوبل في الكيمياء، حيث يقول: الساحة الثقافية العربية أصبحت ممتلئة بالماضي.. أحزاب وصحف وحركات سياسية واجتماعية، كثير منها يحيا في الماضي ويعيش على الماضي، وأصبح الحاضر مجرد ساحة لتصفية الحسابات والحديث باسم الموتى وضد الموتى: (تذكر حادثة محاكمة رموز تاريخية لترى كيف يعمل العقل الطائفي والعقل العلمي).
ويبقى الحديث عن الحس الإنساني تجاه الطائفية، وهذا لا أظن أني بحاجة للحديث عنه؛ لأنه فطرة؛ فطرة تعيش في مكنون النفس، ويشعر الإنسان من داخل نفسه أنه لا يضمر الشرَّ للآخرين بغض النظر عن جنسيتهم أو دينهم أو غير ذلك من الانتماءات؛ بل إن الإنسان في فطرته السوية يحب الخير للآخرين، ويود أن يكون سببًا في إدخال السرور عليهم، هذا هو الإنسان السوي الذي خلقه الله على الفطرة.
من هنا نعرف أن الطائفية ليست منبوذة في حدود الوطن فقط، وليست ممقوتة في حدود الأمة فحسب، إننا نمقت الطائفية ونحرمها ونجرمها وطنًا وأمة وعالمًا إنسانيًا.




http://www.alriyadh.com/1871316]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]