«يدلنا تاريخ الشعرية الإنسانية على أن ماء الشعر لا ينساب على سطح الأرض الثقافية مثل الأنهار المنظورة، لكنه يتشكل في عمر اللغات في الطبقات العميقة المطمورة لفنون الإيقاع والتصوير والتمثيل اللغوي المجازي للحياة، ولا يمكن له أن يُجْتَثَّ من مصادره التراثية أو ينقطع فجأة عن سلالته الخصبة الغنية».
(د. صلاح فضل)

تناولت في موضعين سابقين أهمية وضرورة الإيقاع الموسيقي للشعر؛ لكونه ما يميز الشعر عن سواه في الكتابات الإبداعية التي تنحو إلى أن تكون مكان الشعر بما تحمله من عبارات إيهامية بأن الكلمات التي تتكئ على الإبهام المقصور، أو القول المباشر التجريدي المشابه للحكي الشفهي هو ما يتطلبه الشعر في الواقع الراهن؛ حيث إنه لا يخضع لأي قانون أو حد معين يفرق بينه وبين النثر، ولما للموضوع من أهمية في راهن الشعر العربي الحديث ولكون الشعر من بداية تواجده على الدنيا له ميزته عن الأحاديث أو الكتابات الأخرى التي تماشت وتطورت مع عجلة الزمن عبر التاريخ الإنساني الطويل، والشعر معها ولكن له خصوصيته الأولية المتمثلة في الإيقاع لكونه يغنى ويترنم به وله صوره المجازية التي لم تتح لأي إنسان يريد أن يكتبه إلا لندرة من البشر سُموا شعراء لأنهم كتبوا أفكارهم وأحاسيسهم بطريقة جسدت الفارق بين الشاعر والناثر، وهذا الموضوع ليس وليد اليوم، فالكتابات حول الشعر وتحولاته متاحة ومطروحة عبر الأزمان، ولم يختلف في المزية التي تفرق الشعر عن سواه، حتى من تطرق محاولاً البعد عن النسق المتعارف عليه في الشعرية والشعر لا ينكر ميزة الإيقاع الموسيقي للشعر؛ حيث يتوجه إلى (الإيقاع الداخلي) هذا المفهوم المتذبذب والذي لم يتمكن من يناوله بالحديث أو الكتابة أن يفسره تفسيراً مقنعاً حتى للذات، إذ يكون التخبط واللجوء لنقل كلمات من مصنفات وكتب مترجمة وعربية امتصت ببلادة ما هو مكتوب متظاهرة بالفهم للمقصود الذي عناه المترجم عنه.
إن بعض الذين استسهلوا عملية الكتابة الشعرية وحسبوا أنها مجرد ضم عبارات متعاكسة ومتضادة ومحاولة ربطها قسراً بمسمى (الشعر) هم في الأصل من كنت أعنيهم، ولم يكن ما ذهبت إليه هو تجسيد أحاسيس خاصة هي حصيلة تجربة مع فن الشعر كتابة وقراءة لما يكتب عنه آنياً وما كتب عنه تاريخياً، لكي أستطيع أن تكون مساهمتي واعية لمساندة ما أكتبه أو أتطرق إليه، وحسب قدرة استيعابي، ففي الأحاسيس التي جسدتها في كلمات حول الشعر إن كانت تنحو إلى المسلك النقدي فإن الموقف يملي ذلك لكي تكون الصورة واضحة أمام المتلقي الذي يريد البرهان بالأدلة والإشارة والإحالة وتمكينه من الوصول إلى شيء ملموس سواء أوافق معي أو خالف نظراً لمبدأ الاختلاف في الآراء تجاه الشيء الواحد، فكيف يكون الأمر إذا كان الحديث عن فن الشعر الذي من جمالياته (شعرية الشعر أو الموسيقى؟) وفي تمازج الشعر والموسيقى، أو الموسيقى والشعر، يكمن الجمال الذي يقود إلى إبراز الغنائية بشكل جلي وواضح، وقد حدث تطور هذه الجمالية حسب السبل التي لا تفقد الأصالة، وإنما تأخذ منها حسب المقدار الذي يرفعها لكي تقدر على المثول الصحيح، فبدون الأخذ من الأصل فليس هناك فروع، فبدأت من الشعر الجاهلي مروراً بالعصور الماضية إلى المعاصر، وقفت عند حالة مختلفة عما سبق، دعت إلى الشك في عدم أصالتها لأنها تعمل على التقويض ولا تساعد على البناء، وكان أن وقفت عند جماعة (شعر) في أواسط الخمسينيات، والكيفية التي أخذوا يتفتتون بها -كل واحد منهم يدعي زعامة الجماعة- يوسف الخال، شوقي أبو شقرا، وأدونيس، وخالدة سعيد، ثم من لحق بهم، رياض الريس، أنسي الحاج، ولم تكن لديهم القدرة على مواجهة مجلة (الآداب) التي توجه إليها الشعراء الذين كانت لهم مكانتهم المرموقة في العالم العربي، كتبوا في شعر ظناً منهم أنها اسم على مسمى، وعندما اتضح توجهها كانت مجلة (الآداب) لسهيل إدريس، ومجلة (الأديب) للبير أديب وجهتهم وشملت استقطاب الشعراء من العالم العربي عامة.
لم تصمد (شعر) كما أنها كانت بسبب الفصام الداخلي تتوقف ثم تعود ثم توقفت نهائياً، فذهب كل واحد من الجماعة في طريق، منهم من اتجه للتجارة، والبعض للكتابة الساخرة، وفئة متأثرة ما زالت تتمسك بأهداب الماضي الحلم ونصب خيمة في كل مناسبة، وتعليق كل طفرة أو (طفوة) من متصاب ثقافياً ومراهق فكرياً بجماعة شعر، ورسم الفتوحات التي قامت بها شعرياً بالنسبة للشعر العربي، وأن دورها بتأثيرها الفعلي بدأ الآن وكل أخذ يشير إلى أنه من خيمتها بسبب الدعاية والتسويق للتأثير على الجيل الحالي بمسح وطمس تاريخ الشعر العربي عبر العصور حتى الحالي، وأن إيقاع الموسيقى الشعرية لا أهمية لها، وأن الجمالية تكمن في المجانية لغةً وفكراً، ليأتي من يقول إنه يفجر اللغة وأن قصيدة النثر هي الشعر الحقيقي، وهو لا يعرف عن الشعر إلا اسمه حيث يجهل، وللبعض ممن جذبتهم مفاهيم (شعر) ممن يملك الشجاعة ليقول لك: «لقد أفادتني كتابة القصيدة النثرية كثيراً في كتابة قصيدة (التفعيلة) الشعر الحر حيث جهدت من البداية أن أحوّل الوزن إلى وسيلة لخلق الإيقاع الشخصي بصياغة تمتلك بساطة وسهولة القول النثري وقد وجدت أن بحر الخبب أو (قرع الناقوس) -المتدارك- غالباً ما تجنبه الشعراء هو الأكثر طواعية في منح الشعر دقة النثر وفي إفلاته من الرنين العالي القائم على الإيقاع الخارجي المفروض» هذا إقرار ضمني من الشاعر ضياء الغزاوي بأن الإيقاع له أهميته في الشعر حسب ما ذكر بحر الخبب (فعلن فعلن فعلن فعلن/ مكرر مرتين مثل:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
للشاعر الحصري القيراوني هذه القصيدة التي جمعت معارضاتها من شعراء مختلفين بلغت حوالى مئة على نفس إيقاع البحر.
مع الشعر أنا بكل أشكاله، ولكن لست مع المتشاعرين الذين يتشدقون بما لا يعرفون؛ لأن للشعر احترامه، فهو يحترم من يعرف الشعر ومعنى الشاعرية، ويقدر على تطبيق معرفته في ما ينتجه.
أنسي الحاج
بدوي الجبل
فدوى طوقان
يوسف الخال
د. نذير العظمة




http://www.alriyadh.com/1872072]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]