التأليف في طبقات المذاهب، وإن بدا خيراً ووفاء للأساتذة والمعلمين - وهم بهذا جديرون - فهو ثمرة الميل إلى حزب فقهي، وجماعة عقديّة، والاكتفاء بما عندهما، في أمة شِعارها الذي تتزيّن به، وتتباهى بما فيه: اطلب العلم ولو في الصين..
كثير من الأمور تنشأ من غير قصد إليها، ولا إرادة لها، وتتحوّل مع الزمن إلى ما لا يُستغنى عنه، ولا يُعاش دونه، ولو بُعث أصحابها الذين تُنسب إليهم، وتُعرف بهم؛ لرأوا أمورا لم يتوقعوها، وقضايا لم يظنوها، وتطورات لم يخطر على قلوبهم توقّعها؛ هذي هي سيرة المذاهب والنحل والمدارس في تاريخ الإنسان، تبتدأ بأصحابها الأولين، الذين كانوا يأخذون عن أهل عصرهم، ويستمعون إليهم، ويرون العلم والحكمة شِركة بين البشر، يُؤتاهما القاصي والداني، ويتفضل الله بهما على من يعرفون ومن لا يعرفون، وتُختم بمن يضع الحدود، ويُقيم السدود، ويجعل كلّ مذهب جزيرة مستقلة، تُحيط بها الأسوار العظيمة، وتكتنفها الحراسات الشديدة، فلا ينفذ إليها أحد، ولا يُقبل من ديّار مغادرتها، ويُطرح في آداب هؤلاء حق الإنسان في الانتقال من مذهب إلى مذهب، والتحول من مدرسة إلى مدرسة، وكأنّما قامت هذه المذاهب والمدارس على أسس مختلفة، ونهضت لغايات متضادة، ولم يكن المتفق عليه بينها أعظم من المختلف فيه وأكثر عددا!
وإنما قلت ذلك، وذهبت إليه؛ لأنني لم أقرأ قط أن صاحب مذهب، أو رجل نحلة، أو رأس مدرسة؛ كان يروم تأسيس ذلك، وينوي القيام به، ويعزم عليه، ويُخطط من أجله! ولعلكم مثلي في هذا، لا تجدون ما يدلّ على أن مَنْ تُنسب لهم المذاهب، وتُعزى لهم النحل، وتُرهن بهم المدارس؛ كانوا حريصين عليها، متفانين في تأسيسها، ساهرين على سقيها، يترقبون ثمارها، ويرجون عوائدها.
هذه المذاهب التي لم يُخطط لها ذووها الأوّلون، ولم يبغوا لها استقلالا، ولا طلبوا لها انحيازا؛ هي نفسها التي ظهرت فيها كتب الطبقات المذهبية، ونشأت فيها التراجم التصنيفية، وانتهت كل طائفة منها إلى أن تُعرّف بأعلامها، وتلاميذ أعلامها، وتضع الشروط والضوابط التي بها يُضحي الفرد بها منتميا إليها، ومعدودا من أنصارها، وحائزا على فضائلها، فنشأ ناشئُها، "وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه"، مقتصرا عليها، هاجرا غيرها، مهموما بنصرتها، ومولعا بالدفاع عنها، فأصابت عقله، وندبت ذهنه، ووضعت له الحدود التي لا يتجاوزها، والمسارب التي لا يحيد عنها، وكانت من قبل تدعوه للنظر في ما يُلقى عليه، وتحضُّه على البَصَر بما يُسدى إليه، فوجم منه الذهن، وسكن منه النظر، وكان ذلك شرط بقائها، وسبب استمرارها.
كل موضوع بحسب الدرب الذي تسلكه إليه، وكل قضية حسب السبيل التي تأخذها صوبها، وإلى هذا يرجع كثير من اختلاف الناس، وينتهي به جدلهم، فناظرٌ إلى جهود مؤلفي الطبقات المذهبية، وحامد لهم ذلك، فهم جمعوا الرؤوس، وعلى أيديهم عُرفت أشرف النفوس، وحسبك منهم بعد ذلك ما قضوه من وقت، وأفنوه من عمر، وما من لوم على من يذهب هذا المذهب، وينتحل هذا الرأي، فربّ قائل مشكوك فيه أقرب للصواب من الشاك فيه! ولكن المرء أيضا ملومٌ حين لا يمنح نفسه فرصة النظر من جهات أخرى إلى الأشياء، فربّ متروكٍ أحفلُ بالصواب وأقرب إليه من مُعْتنى به مأخوذ فيه!
التأليف في طبقات المذاهب، وإن بدا خيرا ووفاء للأساتذة والمعلمين - وهم بهذا جديرون - فهو ثمرة الميل إلى حزب فقهي، وجماعة عقديّة، والاكتفاء بما عندهما، في أمة شِعارها الذي تتزيّن به، وتتباهى بما فيه: اطلب العلم ولو في الصين، وفي هذا الشكل من التأليف نَكارة عظيمة لمبدأ جليل، وتجاوز كبير له، بل مناقضة صريحة لمعناه، ومُدافعة لمحتواه، وحسبنا أن نرى المفارقة العجيبة بين دعوتنا إلى طلب العلم في الصين وعجزنا عن طلبه ممن هو قريبٌ منا، وجداره مُساقِب لجدارنا، نذهب في طلب الحكمة والعلم إلى الصين، ونُفوّتها عند مَنْ له مثل غايتنا، ويؤوب إلى مثل مبادئنا، ويرجو منها في الدنيا والأخرى مثلما نرجو.
كل شيء له وجه حسن، ووجه كئيب، ويستطيع المرء أن يقصر نظره على الأول، ويذر الثاني، وكثيرا ما فعل الإنسان الضدّ، فعرف الكئيب وأحصاه، ومن وجوه الكآبة في الطبقات المذهبية، والسياق سياق نقد، أنّ بعضهم ذهب يُفاضل بين أئمة المذاهب بالنسب، فهذا عربي قحّ، وذاك مولى من الموالي، يقول أبو منصور التميمي مُرَجّحا مذهبه على غيره: "وأمّا الذي يُوجب ترجيح مذهب الشافعي.. فدلائل كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش".. ولم نجد أحدا من أصحاب المذاهب قرشيا غيره؛ لأن أبا حنيفة من الموالي، ومالكا من الموالي..!".
ومع غرابة هذه الدلالة، وعدم دقتها في حق مالك؛ إذ هو عربي صريح، إلّا أنها تُؤسس لأمر آخر، نهى الدين عنه، وهو العصبية النسبية، وأثرها في نيل الحق وإدراكه، وتلك طبقيّة أخرى، لا تختلف كثيرا عمّا دار الحديث في هذا المقال عنه، وحسبنا قوله عليه السلام: "يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أُغني عنك من الله شيئا".





http://www.alriyadh.com/1872241]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]