وصلتْني هذا الأُسبوع نسخة إِلكترونية من مجموعة شعرية لأَحد كبار الشعراء، مصوَّرة بإِتقان ممتاز حتى لكأَنها النسخة الأَصلية كما تركها الشاعر بين أَوراقه.
أَمام هذه المخطوطة، وإِن نسخة مصوَّرة، تنازَعَني شعوران: فرحي باقتنائها أَقرأُ فيها قصائد هذا الشاعر بخطه وأَتخيَّلُه يكتبها فأُحسني أَمامه أُتابع ولادتها بيده التي كنت أَودُّ لو أُصافحها لكنه توفي قبل ولادتي بسنوات، وشعوري بأَنْ ليس يزعجني كونُها نسخة مصورة لا أَصلية.
أَمام هذه النسخة المصوَّرة أَقنعَني الشعور الأَخير حيال أَيِّ نسخة أَراها، في كتابٍ أَو موقعٍ إِلكتروني، للوحةٍ أَو منحوتة، وأَكتفي بها طالما ليس في إِمكاني اقتناؤُها أَو رؤْيتُها أَصليةً.
هذا الأَمر وضعني أَمام تساؤُل لم يلبَسْني من قبْل: إِذا كان هذا حال المخطوطات السابقة منسوخةً إِلى المنصات الإِلكترونية الحالية، فماذا بدءًا من الفترة الحالية ومعظم الشعراء والأَدباء أَخذوا "يعزفون" كتاباتهم على مكابس الكومبيوتر أَو اللوح الذكي أَو شاشة الهاتف؟
مع الكتابة على مساحات بيضاء افتراضية وحفْظها في ذاكرة الوسائط الإِلكترونية، لن نعود نرى مخطوطة على ورقة، بل نصًّا مطبوعًا على شاشة ذاكرة مشتركة، أَو قرص مُدمَج، أَو مكتبة عامة رقمية مفتوحة للجميع لقراءة هذا النص متاحًا لهم في صيغته المتداوَلة العامة لا أَن تكون لأَحد صيغتُه الأَصلية. فلن تعود بعد اليوم نسخة "أَصلية" ونسخة "مصوَّرة"، طالما هذه الشاشة العبقرية تجعل الجميع سواسيةً أَمام نسخة موحَّدة عامة دائمة يطالها القارئ من مخزنها أَنى يكُن في أَيّ مكان من العالم.
حتى المؤَلفون الموسيقيون أَخذوا يكتبون نوتاتهم على الشاشة مباشرةً عبر برامج خاصة تتيح لهم التأْليف السريع والتعديل والحذف والإِضافات، بسهولة تامة ونسخة نظيفة، بعد ضنًى مرهِق كان يعانيه أَسلافُهم في تدوين النوتات على أَوراق خاصة تستغرق كتابتهم عليها ساعاتٍ طويلة ممضَّة عند كتابة عمل أُوركسترالي.
بعد اليوم لن نرى مخطوطة أَصلية وحيدة عند أَحد، طالما تبلُغُ النصوصُ الجميعَ في وقت واحد وجميعها أَصلية.
بعد اليوم لن نرى نتاج اليد في مخطوطة (manuscript) بل نتاج المكابس في مطبوعة (typuscript)، فتزول أَهمية النسخة الأَصلية "الخاصة" وتنتشر أَصلية "عامة" للجميع.
إِنه العصر تَغيَّر، ويا مرحى به. فلْنتأَقلمْ معه بدون أَسف على ما كان، ولْنَمْشِ في دروب العصر صوب ما هو كائن وسوف يكون.
لكل عصرٍ جديدُه الـمُشرق، ولا ينقذُنا سوى اعتناق إِشراقه محتفظين - نوستالجيًّا فقط - بذكريات الماضي دون أَن تُعيقنا هذه الذكريات "الحنينية" عن اقتبال حاضرنا الذي ننسج به نتاجًا نابضًا لذاكرة المستقبل.




http://www.alriyadh.com/1874330]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]