لماذا تقف الدول الإسلامية في تاريخنا موقف المستفيد من المذاهب العقدية والفقهية، تأخذ بالموجود المستقر ولا تسعى لإنتاج الجديد، بل لا نكاد نعرف دولة قامت فنشأت بجهدها وتوجيهها المذاهبُ؟ هل يعود ذلك إلى أن الدول تتقرّب من مجتمعها، الذي تحكمه، وتريد أن يخضع لها..
من قوانين حياة البشر، في الفكر والسلوك، أنّ الشيء - فكرة كان أو سلوكاً - لا تخفّ سطوته، وتقلّ قوته، ويأخذ مأخذ غيره في التطور والتبدل من حال إلى حال؛ إلا إذا وُجد ما يُضادّه، ويُسائله، ويتتبع فساده، ومتى خلت له البيئة، ونعِم بها حالاً، واكتظت ببابه الأنصار؛ رأى ذلك قوةً فيه، وإصابة في معانيه، وسلامة في مكوناته، فزاد صلابة، ورَبا قوة، وغزُر يقيناً، فأضحى من العسير أو المستحيل وقفُ نفوذه، وعرقلة تمدده، وتخفيف وطأته، وحالت به الحال إلى سد منيع وقيد في الرجل متين.
وهذه حال، شكاها الناس قديماً، ومازالوا على شكواها في عصورنا هذه، وإذا كان المستقبل يُعرف بالماضي وما جرى فيه؛ فما من عجب أن تظلّ الشكاية في الأجيال المقبلة، فتجد البشر يتبرمون من عُرفٍ قائم، ويتسخّطون من فكرة ذائعة، ويَودّون لو قام قائم، ونهضت دولة، فأبطلت تلك الأثقال، ومحت تلك الآسار، ونسخت تلك الأغلال.
ونحن إذا نظرنا إلى هذه الحال، وصدّقنا بوقوعها، سنلتفت لِمَنْ في مقدوره، أكثر من غيره، أن يُساعد في حلحلتها، ويُشارك في دوائها، وما دمنا في اختيارنا بين أفراد ودول، أفراد نرتجيهم في مواجهة عَرامة الفكرة والسلوك وعنفهما، ودول ننتظرها أن تنهض بمؤسساتها وهيئاتها، فتأسو الجرح وتُطبب الكَلْم، فميلنا سيكون للدولة، وتعويلنا سيُصبح عليها، وحسبنا منها أنها تتحرك بعقلانية المؤسسات، ويُحيط بها العقل المستشير "وشاروهم في الأمر"، وتُديرها مصلحة الجميع، مصلحة مواطنيها ومواطني العالم من حولها؛ على حين يعيش الفرد، الذي يُعوّل عليه فئام منا، لنفسه أولاً، ولجماعته وشلته ثانياً وعاشراً.. ولا يستوي الأمران أبداً!
كثيرون ممن سيقرؤون المقالة، وينظرون فيها؛ ستُذكّرهم بالأستاذ هيغل وأفكاره حول الدولة، حين جعلها التحقق الثالث للروح الاجتماعية، وهي في الحقيقة كذلك، وجعل الأسرة التحقق الثاني، والمجتمع المدني هو الثالث، وكانت وظيفتها عنده تربية الفرد، وإخضاعه لنظام عام، يُحرّره من أَوصاب طبيعته الحيوانية، ويُنقذه من نظراته العقيمة.
أُمور كثيرة في حياة البشر كانت قبل مرحلة الدولة، كانت مزعجة ومقلقة ومثيرة للفتن والمتاعب؛ استطاعت الدولة أن تُنظمها وتضبطها وتُجريها على نظام خير مما كان، فحفظت للناس حقوقهم، وصانت لهم شؤونهم، وفتحت باب الآمال لهم، فطابت النفوس، وهدأت الأرواح، وأخلدوا إلى ما ينفعهم، وتلك سنة تخضع لها المذاهب وتستجيب لها، وفي ظني أنّ المذاهب، وهي تركة سيادة الفرد وجماعته المنتمية إليه، تُعدّ من التحقق الأول عند هيغل، فهي عندي شبيهة بالأسرة، وذا يقضي بأنّها تُصاغ في ظل الدولة من جديد؛ لأن كلّ شيء، وما يشهد به الواقع لا يحتاج إلى بيّنة، يظلّ مُحمّلاً بماضيه، تُستثار الذاكرة بأحداثه، ويُوجّه العقل بخصوماته، وكَمْ مرةً دعتنا التصنيفات المذهبية، عقدية وفقهية، إلى مراجعة التاريخ؛ لنعرف موقف أولئك من أولئك وهؤلاء من هؤلاء! والذي في ذهني أن الدولة المسلمة الحديثة، ستظل بعيدة عن تحقيق مفهوم الدولة، ما لم تنشأ فيها مذاهب، تنقل المرجعية من الأفراد في الماضي إلى الدول والمجتمعات في الحاضر، وما لم يجر ذلك، وتتخذ الدول المسلمة خطواتها في هذا السبيل؛ ستبقى المرجعية الحاكمة هي الماضي، والدولة وحدها هي التي ستدفع ثمن العودة إلى ماضي الصراعات القديم، ويبقى الماضي، بما جرى فيه، حاضراً في كل لحظة، وكان في مقدورنا أن نأخذ خيره، ونُجرّده من لباسه التصنيفي، ونصوغ بعلمائنا وباحثينا مذاهب تتسق مع التحقق الثالث للروح الاجتماعية، وهو الدولة.
ما الذي يدعو الدول إلى الأخذ بمذهب محدد؟ ولماذا وُجد في علماء الإسلام من كان مجتهداً، ينظر ويستدل، وهم أفراد ولم يكن ذلك في الدول التي توفرت لها الأسباب، واجتمعت لها الدواعي؟ يقول الناس: إن الحاجة أم الاختراع، فهل كانت حاجات الدول وواجباتها، التي يُظن بها أن تقوم لها، أقلّ شأناً وأهون خطراً من حاجات ذلكم الفرد، الذي ترك بعده مذهباً، وتلقّاه الناس إثره؟ ما الذي ينقص الدول، وهي ذات هيئات، تضم عشرات من الخبراء والمختصين، وتُعالج تحديات أمة، وتسعى في تلبية حاجاتها؛ أن تُبنى فيها المذاهب وتُنشأ الاتجاهات ويحصل عليها في تاريخنا أفراد، مهما كانت قدراتهم، ومهما أُوتوا من صلاح وورع، يبقون مأسورين للحظة التي يعيشونها والوظيفة التي يقومون بها؟ لماذا تقف الدول الإسلامية في تاريخنا موقف المستفيد من المذاهب العقدية والفقهية، تأخذ بالموجود المستقر ولا تسعى لإنتاج الجديد، بل لا نكاد نعرف دولة قامت فنشأت بجهدها وتوجيهها المذاهبُ؟ هل يعود ذلك إلى أن الدول تتقرّب من مجتمعها، الذي تحكمه، وتريد أن يخضع لها، بالأخذ بما عُرف فيه واشتهر بين الناس الأخذ به؟ إن الدول المسلمة، ما ظلّت على هذه الحال، ستبقى مرهونة بصراعات الماضي، الماضي الذي كانت فيه الدولة للفرد، وليس للدولة.




http://www.alriyadh.com/1876099]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]