لماذا لم تحظ الفلسفة بعناية الخليجيين؟ ولِمَ كانت مؤلفاتهم فيها، وترجماتهم منها، شحيحة قليلة؟ ألم يعرف هؤلاء مثلا محاورات "أفلاطون" الباهرة مع أستاذه؟ ألم يطلعوا على تراث المعلم الأول "أرسطو" الذي مع ما انتُقد فيه مازالت قدمه راسخة وروحه حاضرة؟..
قبل ما يقرب من ثلاثين سنة وكاتب هذه السطور يجتني ما تبثّه المطابع في الفلسفة وأعلامها، وكان من أحبّ الأشياء إليه أن تقعَ عينه على ترجمة لكتاب من كتبها، وسيرة من سير أساطينها، ولم يفطن في ذلكم الوقت، وهو السلفي التراثي، إلى السبب الذي يدعوه إلى الحرص عليها، والعناية بها، ومازال إلى هذه الساعة لا يجد السبب المقنع الذي جعله يبتدر المضي في طريق لم يألفه الناس حوله، ولم يكونوا يُشجّعون عليه، ولم تدعُه إليه دراساته الدينية واللغوية في معهد الرياض العلمي!
وهذه الظاهرة، وأعني السير في الدروب غير المطروقة، أشبه بالصدف، أو هي هي، وغالبا ما تصنع هذه المفاجآت في حياة مَنْ يمرّ بها شيئا لم يخطر بالبال، وأمورا لم تكن في الحسبان، فيجتمع على الإنسان أمران: صدفةٌ في الحدث، ومثلها في سيرته وطريق حياته، وهذه الصدف تستعصي على التفسير المنطقي، وتتجاوز التحليل العقلي، ولا يُطلق الناس هذا المصطلح على شيء إلا وهم حائرون فيه، عاجزون عن القبض على سببه، ومع ما تتسم به الصدف من غموض وغرابة إلا أنّها تحمل أحيانا ما يُسرّ به المرء، ويفرح به، ولهذا قال فيها الناس: ربّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد.
وهذه الصدفة التي اقتادت حياتي، والحياة أحيانا تقتادها الصدف، أثمرت ثمارا كثيرة، منها ما رصدت هذه المقالة للحديث عنه، والبوح بما لديّ فيه، وهو دعواي بعد تجربة دامت أكثر من ثلاثين سنة أنّ المكتبة الخليجية، خاصة السعودية، فقيرة بالفلسفة مُجدبة منها؛ فلا تكاد تجد لسعودي ترجمة لكتاب فلسفي، قديما كان أو حديثا، ولا تكاد تجد له دراسة عن مذهب فلسفي، ولا عن علم من أعلامها، والمكتبات التجارية خير شاهد، ومَنْ أحال إلى الواقع فقد أنصف من نفسه، وأعطى لمخالفه حجة بيّنة عليه.
ومثل هذه الحال التي قادتني إليها الصدفة، وأخذت بتلابيبي إليها؛ تُثير سؤالا مرحليا، ضروريا طرحه والإجابة عنه، موجزه: لماذا لم تحظ الفلسفة بعناية الخليجيين؟ ولِمَ كانت مؤلفاتهم فيها، وترجماتهم منها، شحيحة قليلة؟ ألم يعرف هؤلاء مثلا محاورات "أفلاطون" الباهرة مع أستاذه؟ ألم يطلعوا على تراث المعلم الأول "أرسطو" الذي مع ما انتُقد فيه مازالت قدمه راسخة وروحه حاضرة؟ بل ألم تُتح لهم الفرصة أن يُلمّوا بتراث "روسو" ويروا عجائبه التي كان "عمانويل كانت" لا يدع من يديه واحدَها إلا بعد أن يأتي على صفحاته وإن طالت وكثرت؟
هذه الأسئلة تدعونا جميعا للتفكير فيها والإجابة عنها، بعد أن بدأت موجة التفكير الفلسفي في بلادنا، وأخذت وزارة التعليم قرارها في تدريس الفلسفة وتعليمها، وأصبح المخُوف بقرار المسؤول مرغوبا فيه محثوثا عليه، ومن الوارد جدا أن نتفق في بعض ما نُفكّر فيه، ونختلف في غيره، ولنا في هذه المسألة حالٌ لا تختلف عن أحوالنا مع المسائل الأخرى التي يدور فيها الحديث، ويكثر فيها القيل.
عندي لهذه الأسئلة ثلاث أجوبة، الأول منقول من "أرسطو"، والثاني والثالث مأخوذان من ماضينا وحاضرنا، فأمّا الجواب الأول فهو في قول "أرسطو": "حينما تُشبع الحاجات الملحة، ينتقل الإنسان إلى طلب الأمور الرفيعة ذات الطابع العام" وهو قول شرحه "هيجل" في كتابه (العقل في التاريخ)، وخلص إلى أن الظروف الطبيعية المعتدلة تُساعد الإنسان أن ينتقل من طور مواجهة الطبيعية، وما فيها من شدّة وعنف، إلى طور البناء الروحي والفكري، ونحن في الخليج ربّما يكون هذا مانعا لنا في الماضي البعيد من الاتجاه للفلسفة والعناية بها؛ لكنه سدّ لا وجود له مع دولنا الحديثة التي انتقل الإنسان بها من طور تطويع الطبيعة إلى طور التمتع بخيراتها والانتفاع منها، وهكذا فهذا الجواب لا يصلح لنا، ولا تُفسّر به حالنا.
والجواب الثاني هو ما اشتهر في تراثنا الإسلامي من مناهضة بعض علماء الإسلام للفلسفة، وتحذيرهم منها، ولعل من أوائل أولئك ابن الصلاح في جوابه الشهير لسؤال سائل سأله عن الفلسفة والمنطق، والذي أراه؛ أنّ موقف هؤلاء العلماء لا يصحّ إيراده في هذا العصر، ولا يحسن الاحتجاج به واللجوء إليه، وما ذلك إلّا لأنّ النخب الثقافية والرموز الفكرية لم تكن فتوى هذه الطائفة من العلماء تُحرّكها وتختطّ لها السبيل؛ ألا تراها شرّقت وغرّبت في إحضار الأفكار الغربية، والنظريّات المثيرة، ولم تصدّها الفتاوى وتحجزها المواعظ!
وبقي الجواب الثالث، وهو ما أرتضيه، وأرى أنّه المفسّر الأقوى لهذه الظاهرة مع الفلسفة وأعلامها، وهو أنّ مفكري الخليج ومثقفيه كانوا أميلَ للاشتغال بالراهن عن الأنفع، وأقصد أنهم مالوا إلى الانخراط في المعارك الثقافية المشتعلة في بيئاتهم، وقادهم ما وجدوه فيها، ولم تسمح لهم حرارة المعارك أن يأخذوا طريقا آخر أو يُفكّروا فيه!




http://www.alriyadh.com/1877391]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]