مع قدوم شهر الخير، والرحمة؛ شهر القرآن، والصيام، والليالي الجميلة، تتحرك مشاعر الأدب وقرائحه، وتتفتق الكتابة بكل ما فيها من إبداع وإمتاع للاحتفاء بشهر رمضان، واستقباله استقبالاً يليق به وبروحانيته، وقد لمسنا هذا الاهتمام متوافراً منذ القديم مع الشعراء تحديداً، حيث رأيناهم يعتنون بطلعته، ويستبشرون بغرّته، ويرسمون هلاله، ويقدّرون جماله، وهذا مشاهد عند جملة من الشعراء، كابن حمديس الصقلي الأندلسي (ت527هـ)، وابن دراج القسطلي (421هـ)، بل وجدنا هذا الاعتناء عند بعض الشعراء في العصر الحديث، كعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد حسن فقي، وحسين عرب، ومحمد إبراهيم جدع، وأحمد سالم باعطب، وغيرهم.
ومن يتأمل حركة النثر العربي في استقبال رمضان يجدها متنوعة وإن لم تكن زاخرة، وقد درج الكتّاب، والمترسلون زمن الكتابة الفنية؛ في القرن الثالث الهجري وما بعده على إبداع بعض الرسائل الأدبية التي تهنئ برمضان، وتحتفل بتلقيه، والعناية به، وظهرت في هذا الباب بعض التهاني المفعمة بالأدب والإبداع، فمن ذلك ما أورده أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني (ت453هـ) في كتابه (زهر الآداب وثمر الألباب)، حيث أورد بعض النصوص التي تهنئ بإقبال شهر رمضان، يقول مثلا: «ساق الله تعالى إليكَ سعادة إهلاله، وعَرَّفك بركة كماله»، «قسم الله لكَ من فضله، ووفّقك لفرضه ونفله»، «لقّاك الله ما ترجوه، ورقّاك إلى ما تحبّه فيما تتلوه»، «جعل الله ما أظلّك من الصوم مقروناً بأفضل القبول، مُؤذِناً بدركِ البُغيَةِ، ونُجح المأمول، ولا أخلاك من برّ مرفوع، ودعاء مسموع»، «قابلَ الله تعالى بالقبول صيامك، وبعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك»، «أسعده الله بهذا الشهر، ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر، ووفّر حظه من كل ما يرتفع من دُعاء الدّاعين، وينزل من ثواب العاملين، وقبل مساعيه وزكاها، ورفع درجاته وأعلاها، وبلّغه من الآمال منتهاها، وظَفِر بأبعدها وأقصاها».
على أن من الغريب، وغير المألوف أن نجد لدى مترسلي قرون الكتابة الفنية الأولى، وتحديداً القرن الرابع الهجري رسالة يتبرم كاتبها في استقباله شهر رمضان، ويظهر أنه كتبها وهو في حرّ شديد، يقول ابن العميد (ت367ه): «كتابي -جعلني الله فداك- وأنا في كدٍّ وتعب، منذ فارقتُ شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع، ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها عريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب، ويصرف وجه الحرباء عن التحنق...».
والرسالة طويلة، لكنها ختمها منيباً مستغفراً، يقول: «وأستغفر الله -جل وجهه- مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، وأسأله صفحاً يفيضه، وعفواً يسيغه»، وقد أورد الثعالبي (ت429هـ) هذه الرسالة في كتابه (يتيمة الدهر) في ترجمته لابن العميد، وذكر بأنها: «مما لم يسبق إليه»، والحق أنها رسالة غير مألوفة المعاني، وإن كانت أنيقة الألفاظ؛ لأن أغلب الأدباء إنما كانوا يستقبلون رمضان مستبشرين فرحين، وإن رأينا منهم في الشعر من لم يكن كذلك، وكذا الحال في النثر أيضاً، كما أبانته رسالة ابن العميد.




http://www.alriyadh.com/1879692]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]