شهر رمضان فرصة لإعادة النظر في أسلوب العيش وطريقة التفكير؛ فبدل أن يكون مجرد فاصل مؤقت في عادات العيش؛ يجب أن نتمثل معناه ودروسه لنستصحبها طوال العام، وبالنظر إلى نمط الحياة المعاصرة، الذي يراد له أن يُعولم ويسود، حيث إن سياق الحياة الراهنة أدخل الإنسان في دوامة الاستهلاك والضغوط النفسية، ذلك لأن المضمون الثقافي الذي يتخلل الأنماط التربوية المهيمنة مضمون مادي يختزل الإنسان ورغباته في بهرج الأشياء، وذاك هو جوهر الرؤية المادية التي يتأسس عليها نمط العيش المعاصر.
أشارت دراسات نقدية تناولت نمط العيش الحديث؛ أشهرها كتابات هربرت ماركيوز وإيريك فروم، إلى سلبية نفسية تتمثل في طغيان رغبات التملك والاستهلاك، وأن نمط العيش المعاصر كبّل الكائن الإنساني برغبات تحولت بفعل قوة الإشهار وآلياته إلى حاجات يظل الإنسان دوماً يجري لاهثاً من أجل سدها، وفي ظل هذا النمط الاستهلاكي يفقد الإنسان القدرة على ضبط اختياراته واستجاباته.
ومن منظور سيكولوجي فإن ارتفاع معدلات الاكتئاب يتناسب مع ارتفاع وتعدد الاختيارات الاستهلاكية، وعدم قدرة الناس على ضبط حاجاتهم، وهذا عكس الظن الشائع الذي يحسب أن تعدد الاختيارات والانسياق نحو الاستهلاك يسعد الإنسان، وفي السياق ذاته فإن نفسية الاكتئاب والإحباط قرينة للإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الجارف، وعدم الانتباه إلى فائدة الضبط والتقليل من الاندفاع.
لذا نجد الكثير من الأبحاث تنصح بالتدريب على ضبط النفس والسيطرة على الرغبات وعلاج الجسد بالصوم، وثمة مؤسسات ومراكز طبية تتخصص في العلاج بالصوم أشهرها مثل: الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية، هذا فضلاً عن عديد من الجمعيات والمراكز المبثوثة في أوروبا، وكذلك آلاف المراكز الموجودة في آسيا (اليابان والهند والصين..) التي من المعلوم أن لها في تقاليدها الدينية القديمة سابق اهتمام وتقديراً للصوم، وبالإضافة إلى المراكز والمؤسسات الطبية التي تلجأ إلى الصوم كطريقة علاجية، وهناك الكثير من الكتب والأبحاث التي تناولت الصوم من مختلف الجوانب والأبعاد، مثل كتاب هربرت شيلتون "الصوم"، وكتاب نيكولايف بيلوي "الجوع من أجل الصحة"، و"الصوم" لجيسبير بولينغ، و"الصوم والصحة" لميريان ديزيري.. وغيرها.
الصوم برنامج ارتقائي بالإنسان يأخذ بمختلف أبعاده وملكاته، بل حتى في الشق المادي للصوم فإن تعديل السلوك الاستهلاكي لا يتأتى فقط بالامتناع البيولوجي، بل لا بد من تعديل رؤية الشخص إلى معنى الحياة ذاتها، لذا يتجه علم النفس إلى التوصية باقتران الصوم البيولوجي بتعديل التفكير في كيفية العيش، وهذا هو جوهر أي مقاربة سلوكية فاعلة، والصوم يعلمنا أن نتجاوز أنانية الذات فنفكر في الآخر، ونحس فعلياً بإحساس الجوع ومعناه، وبذلك فهو ليس فقط تدريباً على ضبط الرغبة، بل يفيدنا قيمة شعورية بالآخر، فيكون ذلك أساساً مهماً من الأسس التربوية لتحقيق التضامن الاجتماعي، وبهذا فأثر الصوم يتعدى البعد الجسدي والنفسي إلى الاجتماعي.




http://www.alriyadh.com/1880634]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]