ان الهجمة الشرسة التي نلحظها على التاريخ والتراث والموروث وكل ما هو حضاري مدون أو شفاهي لم تأتِ كنزعة فكرية عابرة، بل نتاج فلسفة شاملة اتخذت انطلاقها من عودة عصر الآلة والتي إذا ما لم نعمل على التوازن الحقيقي بينها وبين التاريخ سينتفي كل ما هو فكر إنساني على وجه الأرض بالرغم من دعاة الإنسانية (Humanists)..
لدينا مفهوم خاص حول قيمة التاريخ بكل أشكاله سواء كان حضارياً أو سياسياً أو إنسانياً إلخ.
هذا المفهوم يتمحور حول أن هذا التاريخ قيمة تعمل على ثبات الشخصية وخلودها أمام تقلبات الفكر والفلسفة مما يحفظ لنا مكانتها في كف الكرة الأرضية بين الأمم.
ومن هنا كان لابد من احترام كتب التاريخ والمخطوطات والتراث وحتى قصاصات الورق المتناثرة حول مقاعد المحاضرات؛ ذلك أننا نلملم تاريخنا وبالتالي شخصيتنا وعليه يحدث لنا ما يسمى بالزهو، وهو مقدار كبير من ثبات الشخصية ورسوخها.
كل ذلك كان يكسب الكُتاب والمؤرخين قسطاً كبيراً من الهالة العلمية والمكانة المُقّدَرة بين طبقات المجتمع بل وتعدى الأمر إلى إكسابهم طبقة مميزة لهم وهي طبقة المفكرين (Class of thinkers) ذلك لأنهم صناع الجمال، فإذا ما تتبعنا جماليات الفكر العربي سنجد أن من أقوى ملامحه هو الحفاظ على الجمال سواء كان إنسانياً أم حياتياً مليئاً بالحيوية المتدفقة التي تحيل خواء الصحراء وصرير رياحها وأجوائها المتقلبة ووحوشها المتناثرة والمتربصة إلى أنس جميل يرسم صورة جمالية للوجود على لوحة قاسية الملامح؛ ولذا كان يتم تخليدهم واحترامهم والحفاظ على مكانتهم. وهذا ما لا يحدث إذا ما عرجنا على مثل هذه الطبقات في الغرب فسنجد اختلافاً كبيراً من حيث البداية والتكوين، إذ إننا نجد أن إعدام العلماء والمفكرين كان هو الأساس في بداية بزوغهم وتكوين حصيرة فكرية تمتد في قاعات العالم والمعرفة. وهذا يرجع إلى الحرص على إبقاء السلطة المركزية وتجنب ما يسمى بـ(الإزاحة) في البنية الاجتماعية؛ لأن ظهور مثل هؤلاء العلماء أو من هم على شاكلتهم من التنويريين أنفسهم من يصنعون ما يسمى بـ(القوة الصاعدة) وهي تلك العناصر التي تنشأ من القاعدة العامة للمجتمع ثم تصعد نحو سلطة المركز محاولة اختراق كل القوى التي تعترض طريقها مثل السلطة النائبة أو حتى البديلة وغير ذلك من القوى التي يمكن أن تعترض مسارها لتحقيق أهدافها؛ ومن هنا يتم إعدام المفكرين والعلماء لاستقرار الحال وإبقائه على ما هو عليه هذا أولاً. وثانياً المحيط البيئي مليء بالجمال الفطري الطبيعي والأنس الذي هو في ذاته أنساً لا يحتاج إلى إعادة إنتاج. هذان العنصران وخاصة أول منهما هو ما جعل مسرحيات سكشبير جميعها تنتهي بإبقاء الحال على ما هو عليه دون تغيير يحدث، وهو ما أكسب فرقة شكسبير البقاء أمام عواصف السجن والإغلاق للفرق المسرحية في عصره؛ ولا يتسع المقال لسرد ما كان يحدث في المسرح الإنجليزي في ذلك الوقت.
إن كل ما يهمنا من ذلك المد والجزر في السباحة الفكرية وتأثيرها على الذهنية ومسيرة الفكر نفسه هو ذلك الطفح الجديد الذي طرأ على العقلية العربية بعد قيام الثورات العربية أو قبلها بقليل، وهو محاولة إنكار التاريخ وهدمه وعدم احترامه؛ وهي شطحة كبيرة تهدد الشخصية نفسها والتي تتفرد بسماتها التي نحتت تكوينها وجعلت لها ملامح يجب أن تبقي عليها!
إن الهجمة الشرسة التي نلحظها على التاريخ والتراث والموروث وكل ما هو حضاري مدون أو شفاهي لم تأتِ كنزعة فكرية عابرة، بل نتاج فلسفة شاملة اتخذت انطلاقها من عودة عصر الآلة والتي إذا ما لم نعمل على التوازن الحقيقي بينها وبين التاريخ سينتفي كل ما هو فكر إنساني على وجه الأرض بالرغم من دعاة الإنسانية (Humanists).
إن هيمنة الآلة -وخاصة مع سيادة الرقمنة وإحالة كل شئ إلى رقم بما فيها الإنسان نفسه- ستفقد الحياة معناها وقيمتها وبالتالي قيمة الإنسان نفسه فتحوله من قيمة إلى سلعة لا قيمة له إلا بما يقتنيه من سلع وتصبح السلعة على القيمة الأكبر التي يكتسب منها الإنسان قدره وقدرته بين المجتمع وهذه كارثة كبيرة (التشيؤ) وهو ما يهدد التاريخ فيمحى الذي تم التخطيط له منذ أواخر القرن الماضي بنظرية هدم التاريخ وهو ما يحدث بالفعل!
إن ذلك الحدث العالمي الكبير الذي تم الأسبوع الماضي (موكب المومياوات) في القاهرة وخاصة وقوف فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي مرحباً محتفياً مستقبلاً قافلة الملوك العظام، ما هو إلا إعادة تصحيح المسار الفكري ورداً على هؤلاء الداعين إلى الهدم والتشويه.




http://www.alriyadh.com/1880809]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]