من المقولات التي تُنسب لابن المقفع مقولة تنص على أنَّ: "خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته". وتتجسد هذه المقولة واقعاً -بحسب ما أفهم- في صورة من صور التفاعل الشائعة في تلقي الشعر الشعبي الذي يغلب في تداوله الطابع الشفوي، إذ يحرص الشاعر الشعبي على أن تكون القافية (وأعني الكلمة الأخيرة من البيت لا الروي) سهلةً لا يحتاج المتلقي لكبير جهد لكي يتمكّن من تخمينها والتفوّه بها قبل بلوغها. والمفارقة الغريبة هنا أن هذه الصورة من التفاعل تعد مزيّة ونقطة قوة خلافاً لأجناس أدبية أخرى، كالرواية والقصة، تكون فيها قدرة القارئ على توقع النهاية عيباً فنياً "يقتل متعة" العمل. فالمبدع ينبغي له أن يستعمل جميع الحيل الفنّية التي يجيدها لكي "يخدع" المتلقي، ولكي يستمر التشويق ليصل به أخيراً إلى نهاية صادمة أو غير متوقعة.
وهناك صور أخرى للتفاعل تتصاحب مع إلقاء الشعر الشعبي من أشهرها: الاكتفاء بإصدار عبارات الإطراء بعد الأبيات المميزة، أو ترديد المقطع الأخير من كلمة القافية بعد الشاعر تأكيداً على حسن الإصغاء والانتباه التام لمضمون كل بيت من أبيات القصيدة، وتجلّت هذه الصورة في تفاعل الجمهور مع قصائد الشاعر الكبير خلف بن هذال التي كان يُلقيها في مهرجان الجنادرية قبل سنوات قريبة، كما تتجلّى في تفاعل الحاضرين لمجالس الشعر أكثر من تجليها في مناسبات أخرى كالأمسيات الشعرية التي يميل الجمهور فيها "للتصفيق" تعبيراً عن تفاعله أو إعجابه!
ولعل مرد وصف الشِّعر الذي تُعرف فيه القافية بمجرد سماع الصدر بأنه: "خير الشعر" أنّ هذه الصورة من صور التفاعل لا يكون فيها صوت المتلقي لاحقاً أو تابعاً لصوت المبدع، فصوته يظل حاضراً في كل بيت من الأبيات، وهذا الأمر يحقّق المتعة من جانبين: من جانب الشاعر الذي يشعر بالزهو لقدرة قصيدته على جذب انتباه السامعين وحثهم على التفاعل المباشر مع أبياتها، ومن جانب المتلقي الذي لا يقل زهواً واستمتاعاً وهو يسابق المبدع في الإلقاء، وربما تسرّب إلى نفسه شعور لذيذ بأنه شريك في إبداع القصيدة، ولم يتبقَ أمامه إلا خطوة صغيرة لحفظها لتصبح ملكاً له!
وأعتقد أن هناك غاية أخرى خفيّة أو غير مُعلنة لدى الشاعر تتحقّق من سعيه الواضح لتبسيط عجز البيت ومن حرصه على عدم تخييب أفق توقع المتلقين، وهي غاية تساعده على إصابة "عصفورين بحجرٍ واحد" كما يقول المثل، ولعلي أعود للحديث عن تلك الغاية في مقال لاحق.




http://www.alriyadh.com/1880808]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]