من الإخلال بالحوار البنَّاء ما يفعله بعضُ الناسِ حيث يتلقف آراءً لإنسانٍ بعينه ويكون مُولعاً بها، من غير معرفةٍ لحيثياتها ولا فقهٍ بمضمونها، ثم يحاجُّ به أهلَ العلمِ والبصيرةِ، وفي ذلك مُخالفات للمنطق السليم منها أن آراء من يستعير آراءهم ليست حجة على غيره، فإن كان الناقلُ يعرف أي الرأيين أصوب فهلا تبنَّاه واستدلَّ له، وعرضه كما يعرض المحاور ما عنده، وإن كان لا يدري الصوابَ فالجاهل معفوٌّ من الخوض في مسائل الخلافِ
ليس بوسع الناس أن يتفاهموا فيما بينهم، ولا أن يكفَّ بعضهم عن الغلط إلا بواسطة الحوار البنَّاء، وما كانت مصالحهم لتتحقق لو سلك كل منهم المسلك الذي سولت له نفسه أنه الأقوم، ولم يجد من يُثبِّته عليه إن كان صواباً، أو يَثنيه عنه إن كان خطأً، ومن عادة العاقل المحب للخير أن يدعو إلى الحوار، ويتحدث إلى غيره بلهجة تعبق منها رائحة الإنصاف، ويظهر منها أن لا همَّ للمتحدث إلا الإصلاح، وأول ما دار بين الناس فيما يتعلق بمحاولة أحد الجانبين مخاطبة عقل صاحبه ما دار بين ابني آدم القتيل والقاتل (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وكل ما يُقصُّ علينا مما يدور بين الرسل عليهم السلام ومن أُرسلوا إليهم أمثلةٌ لكلام أخيارٍ يستعملون أساليب الحوار الحسنة، وبالمقابل يُواجههم أتباع الهوى الذين حلا لهم الباطل بأنواع من التشغيبٍ والهربِ من الحوار الهادف، ولي في هذا الصدد وقفات:
أولاً: من طبيعة الإنسان الباحث عن الحق أن يلتمس لصنيعه مُستنداً، وإذا نُوقش في صنيعه فلا عتب عليه في إبراز مستنده، فالاحتجاج على الموقف إذا كان منضبطاً صحيحاً دليلٌ على الحرص على طلب الحق، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرُّ أصحابه على مثل ذلك، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: «أَلَا تُصَلُّونَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ **إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) متفق عليه، بل إن مناقشةَ الابن لوالده بغرض الوصول إلى الحق سائغة كمحاجة موسى لآدم عليهما السلام.
ثانياً: الحوار له آدابه وطرقه وضوابطه، ولا يُثمرُ إذا خلا منها، وتلك الآداب والضوابط بمجموعها يتألف منها عِلمٌ أُلِّفت فيه مؤلفات، ولا شك أن كثيراً من الناس لا يسعه تطبيق ما ينبغي تطبيقه منه بحذافيره، لكن هناك أسس ضرورية لا بدَّ من مراعاتها، وذو الفطرة السليمة يهتدي إليها بواسطة سلامة تفكيره؛ ولهذا لم يخل منها ما يُنقلُ من حوارات حكماء العرب في جاهليتهم، ومن أهم آدابه تحرِّي الحق والفصل التامِّ بين الفكرة وصاحبها، فلا يُهاجم الفكرة الصائبة لأنه يُعادي صاحبها، ولا يُدافع عن الفكرة الخاطئة؛ لأنه يُوالي صاحبها، فكفى بهذا تضحية بالحق، ومجانبة للإنصاف، وإنما الإنصاف أن يُقرِّر الحق بغض النظر عن قائله وهو منهج القرآن الكريم في التعقيب على مقولة ملكة سبأ، قال بعض المفسرين: "ألا ترى أن مَلِكَة سبأ في حال كونها تسجد للشمس من دون الله هي وقومها لَمَّا قالت كلامًا حقًّا صَدَّقها الله فيه، ولم يكن كفرها مانعًا من تصديقها في الحق الذي قالته، وذلك في قولها فيما ذكر الله عنها: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، فقد قال تعالى مُصَدِّقًا لها في قولها: (وَكَذَلِك يَفْعَلُونَ)".
وقد طبقه النبي صلى الله عليه وسلم على شيطانٍ قال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) فلَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ)، أخرجه البخاري.
ثالثاً: من الإخلال بالحوار البنَّاء ما يفعله بعضُ الناسِ حيث يتلقف آراءً لإنسانٍ بعينه ويكون مُولعاً بها، من غير معرفةٍ لحيثياتها ولا فقهٍ بمضمونها، ثم يحاجُّ به أهلَ العلمِ والبصيرةِ، وفي ذلك مُخالفات للمنطق السليم منها أن آراء من يستعير آراءهم ليست حجة على غيره، فإن كان الناقلُ يعرف أي الرأيين أصوب فهلا تبنَّاه واستدلَّ له، وعرضه كما يعرض المحاور ما عنده، وإن كان لا يدري الصوابَ فالجاهل معفوٌّ من الخوض في مسائل الخلافِ، ومنها إهدار وقته ووقت غيره فيما لا جدوى فيه؛ فمثل هذا التصرف لا يكاد يُفضي إلى حقٍّ، ولا يَثني عن باطلٍ، بل ربما أوصد الباب الموصل إلى الصواب أمام مُتعاطيه؛ لأن إقدامه على تخطئة طرفٍ بعينه بمجرد مخالفة الطرف الذي يُحابيه لا يعدو أن يكون تَحَكُّماً وتقوُّلاً على الشرع بلا دليل.




http://www.alriyadh.com/1890051]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]