أَقرأُ أَحيانًا في مقالاتٍ وأَبحاثٍ عبارة "جسد اللغة" أَو "جسم اللغة" أَو "هيكل اللغة"، وهي عبارة لا تفي اللغة مطلقًا لأَن لِلُّغة روحًا أَهمَّ من الجسد، واللغات "الميتة" أَو "القديمة" هي التي لم تعُد في الاستعمال شفاهةً ولا كتابةً (إِذًا روحُها "ميتة") ولو بقيَت مُفْرَغَةً مفرداتٌ منها في بعض المراجع أَو المعاجم.
المفردات مظاهر في جسد اللغة، ومزاولة هذه المفردات (تراكيبَ وصيَغًا واستخداماتٍ،..) هي روحُ اللغة، من هنا أَن الاستهانة بها إِهانةٌ روحَها، والجسدُ إِناءُ الروح، وما نفعُ جسدٍ نؤْذي منه الروح أَو نُصوِّب عليها؟
بالعودة إِلى عنوان هذه الثُلاثية: الفضيلةُ روح اللغة، والوسيلةُ جسدُها؛ لذا حين نُفسدُ استعمال الوسيلة لا نُسيْء إِلى الوسيلة (وهي أَصلًا عرضةٌ للتغيير في أَيِّ وقتٍ كأَية وسيلةٍ تُستبدَل أَو تُستعار) بل نكون نُسيْءُ إِلى الروح التي لا تُستبدَل ولا تُستعار.
هذا هو الاحترام الذي تفرضه علينا اللغة، ولا دالَّةَ مطلقًا تُعفينا من هذا الاحترام، ولم أَحضر في حياتي محاضرة بالفرنسية أَو الإِنكليزية، ولا شاهدتُ حلقة أَو نشرة أَخبار على شاشة أجنبية يُخطئ في لغتها المحاضر أو المذيع، بينما أتابع بالعربية على بعض المنابر أَو الشاشات أَخطاء لغوية فاجعة.
ذلك أَن التعليم الابتدائي إِجمالًا لا يركِّز على اللغة كروحٍ للتعبير بل كوسيلة تعبير، فيكبر التلامذة غير "محترِمين" روحَ اللغة، وتاليًا لا يعيرونها أَهمية الروح بل مجرد أَداة أَو وسيلة لا ضير إِن أَخطأُوا في تعبيرهم عنها كيفما اتفَق، والصدمة التي يشعر بها القارئ عند مطالعته نصًا فيه أَخطاء لغوية، أَو يستمع إِلى أَحد يُلقي (أو يرتجل نصًّا) يُخطئُ فيه فيكسر قواعد اللغة، لا تقلُّ أَذًى للعقل (والعقل محامي الروح) عن أَيِّ أَذًى يُصيب الجسد.
قلْت الاحترام لأَقول إِنه الطريق إِلى الحب، وتعامُلُنا مع اللغة يبلُغ الحب حين يبدأُ بالاحترام. ومن الحب تنبع العلاقة بين الكاتب والنص فيروح ينتقي له الكلمات بِدِقَّة انتقائه ورداتٍ ملوَّنةً يضمُّها في باقة جميلة، وهذا ما يميِّز كاتبًا عن آخر وشاعرًا عن آخر، فيبان تلقائيًّا وجهُ تَعامُلِه مع اللغة: وسيلةً قابضة أَو روحًا نابضة.
كلمات اللغة موجودةٌ جميعُها في القاموس كما في ذاكرة الكاتب، يبقى عليه أَن يختار منها الأَجملَ والآنَقَ والأَفضل لعباراته، نثرًا يكتب أَو شعرًا، كي تُضيْءَ لغتُه بالحياة فيكتسبَ احترام القارئ.
وهنيئًا لكاتب يتعامل مع اللغة باحترام وحُب، لأَنها تعيدُهما إِليه بَصمَة خاصة تَسِم نكهة أُسلوبه المميَّز.




http://www.alriyadh.com/1890052]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]