من مقاصد العيد تجديد أواصر العلاقات والتذكير بما ينبغي من اللحمة بين الناس؛ ففي العيد تنظر في وجه من لم تسمح ظروفك وظروفه في تكرر لقائه، وفي العيد يتبادل الناس التهانئ، وفي العيد يدخل الناس البهجة إلى نفوس الأطفال بالهدايا والكلمة الطيبة..
من محاسن الإسلام انطواء أحكامه على معانٍ سامية يظهر من خلالها كونه المصلحة المطلقة، ولا تختص تلك المعاني بالتشريعات التي شرعت لتنظيم علاقات الأفراد وتوطيد أركان العدل فحسب، بل تظهر أيضاً في القُرُبات التي يتعبَّد بها العبد ربه، فبالنظر في واحدة منها تظهر للمتدبر حكمٌ عظيمةٌ تتحقق من خلالها ومقاصدُ جمةُ المنافع حميدة الأثر تترتب عليه، ولما كان العيدان من شعائر الإسلام الظاهرة المهمة، كان من المهم استجلاء بعض مقاصد العيد، وسأجلِّي عن بعضها في الوقفات الآتية:
أولاً: العيدان كلاهما يقع إثر عبادة عظيمة فلهما علاقة جوار بركنين من أركان الإسلام فأحدهما يعقب الصوم، والآخر يواكب الحج، ويشتركان من هذه الزاوية في كونهما فرحة تعقب أداء ركن من أركان الإسلام، وهذا ظاهر في عيد الفطر، وهو حاصل في عيد الأضحى؛ لأنه يكون عقب الوقوف بعرفة، والحج عرفة، فاكتمال الركن الأعظم بمثابة اكتمال الحج، فيحتفل المسلمون بعيد الأضحى بعد الركن الأعظم من الحج، وأداء الحج يتأتى لجماعةٍ من المسلمين، لكن الفرحة بذلك تعمّ كل الأمة؛ لأن هذه أمة الجسد الواحد؛ ففرحة جمهرة منها فرحة للجميع، وأيضاً إقامة الموسم فرض كفاية على جميع الأمة ويحصل بحضور من حضر، فعلى كل مسلم أن يسعد بذلك؛ إذ لو لم يشهده الحجاج لأثم الجميع، ويستفاد من تبعية العيدين للركنين المذكورين أن إنجاز عمل صالح من شأنه أن يفرح به المؤمن، وهذا مصداق قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
ثانياً: من مقاصد العيد تجديد أواصر العلاقات والتذكير بما ينبغي من اللحمة بين الناس؛ ففي العيد تنظر في وجه من لم تسمح ظروفك وظروفه في تكرر لقائه، وفي العيد يتبادل الناس التهانئ، وفي العيد يدخل الناس البهجة إلى نفوس الأطفال بالهدايا والكلمة الطيبة، ويجري التفضل والتوسعة على العيال بحسب المقدور، ويتزامن كل من العيدين مع تشريع بعض نماذج التضامن المادي بين المسلمين، فلا يخرج الناس إلى عيد الفطر حتى يخرجوا صدقة الفطر التي شُرعت؛ ليغني بها الموسرُ الفقيرَ عن الكدِّ في يوم العيد لتحصيل لقمة يومِه، وبعد عيد الأضحى تشرع التضحية، ويندب الجمع فيها بين الإهداء لغير المحتاج، والصدقة على المحتاج، كما فسر به بعض العلماء قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، وكل هذه الأمور مقاصد جليلة، ومعانٍ سامية تجعل من العيد فرصة تربية وتزكية للنفس.
ثالثاً: العيد فرصة لإظهار الإيجابيات وإخفاء السلبيات، فمهما تكن ظروف الإنسان كئيبة قبل العيد فإنه يظهر منه في العيد الجانب السعيد من حياته، فقد يكون ممن قُدر عليه رزقه، لكنه يتجمّل في العيد، فيكتسي كسوة جديدة، ويعتني بمظهره، وقد يكون مريضاً فترتسم على ملامحه الابتسامة في العيد، وفي هذا تجسيدٌ لما ينبغي أن يكون عليه المسلم من قوة الشخصية ووفور الهمة، وعدم الخنوع للمصاعب، ولا شك أن من الناس من يستلهم هذه المقاصد بواسطة موقفٍ يراه، فالعيد مدرسة للتأمل في هذه المعاني، كما أن كثيراً من الناس يتغلب في لقاءات الأعياد على التنافر الواقع بينه وبين أخيه، فيخفي الحزازة ويُظهرُ البشر والحفاوة، ومن استمرّ على ذلك فهو الموفق المسدد، ومن لم يستمرّ فقد تمكن من إرغام الشيطان في موسمٍ محترمٍ، وهذا في حدِّ ذاته مطلوب وإن كان غير كافٍ.
رابعاً: العيد من مظاهر عناية الإسلام بالتنظيم وجمع شمل الجماعة في صفٍّ واحدٍ تزينه الوحدة، ويقويه التراصّ، فلو نظرنا إلى العيد لرأينا أن توقيته مراعى فيه الانضباط والتقيد بما يثبت لدى الجهات المختصة التي لها سلطة الإثبات، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: (الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ)، أخرجه الترمذي وغيره، وبهذا سدّ الباب دون الشذوذ عن الجماعة في هذه الشريعة، كما أن صلاة العيد من أعظم الجماعات حشداً، وجميع العبادات الجماعية يتجلى فيها مقصد تعليم الانتظام باقتداء الجم الغفير بالواحد لا يختلفون عليه ولا يسبقونه، وهم مُتقيدون بأفعاله؛ لأن الشرع ألزمهم ذلك، وللناظر أن يُوازن بين هذه المصلحة وبين ما لو أمر الناس بالتوافد على المصلى وتركوا هملاً ليصلي كل منهم بنفسه ما شاء، وما ينشأ عن ذلك من الفوضى وتشويش بعضهم على بعض، وإذا كانت الإمامة الصغرى بهذه الأهمية فما بالكم بالإمامة الكبرى المتعلقة بسياسة أمر الرعية، والتي تترتب مصالح العباد والبلاد على التقيد بها، وتترتب المفاسد على المساس بها.




http://www.alriyadh.com/1897475]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]