أُواصل هذا الأُسبوع ما بدأْتُ به في «رياض» الخميس الماضي من الْتزامي عمليًّا بما أَدعو إِليه نظريًّا.
أَقطف من كتابي «داناي... مطر الحب» مقطعًا جاء فيه: «حبيبتي داناي: أَتوغَّل في العمْر ولا أُحسُّني وحيدًا لأَننا واحدان. يخافُ توغُّلَ السنين مَن يَسمَع شَعره يَشيب ويَرى صوتَ تجاعيده، لا مَن أَشرقَت على جبين أَيامه نجمةُ العُمْر. وأَنتِ على جبين أَيامي: لا أُواسيني بزَوَال سنَة من عمري بل أُهنِّئُني بانفتاحي على سنةٍ من حبِّنا جديدةٍ سنابلُها أَنتِ، وتُذَهِّبُها شمسُ حنانكِ».
المباغتة - وهي توقُّعُ اللامتَوَقَّع - استعارة فِعل المكان (التوغُّل) لنَبذة الزمان (العُمْر) وتُكمل بحذْف كلمة «نفسي» (عادةً يقال «أُحسُّ بنفسي») فاختزلتُ الجارَّ (الباء) والمجرور (نفسي) باستخدام الضمير (الياء) متَّصلًا بفعل أُحسُّ (الإِيجاز من أَبرز عناصر الجماليات في الأَدب).
وهي ذي مفرَدَة «واحدان» تُباغتُ قارئًا معتادًا على عبارة «جسَدان في قلب واحد» أَو «روح في جسَدين» أَو ما يشابه باستعمال المثنَّى، وليس معتادًا على تثنية المفرد ذاته (واحدان).
ومن المباغتات تجاوُرٌ غيرُ مأْلوفٍ في الرؤْية والسماع: «يَسمَع شَعره يَشيب» (الشيبُ يُرى ولا يُسمع له صوت) و»يَرى صوت تجاعيده» (الصوت يُسمَع ولا يُرى، والتجاعيد إِذ تتشكَّل تُرى ولا تُسْمَع).
مباغتة أُخرى: «أَشرقَت على جبينه نجمةُ العمر». هنا بات الجبينُ فضاءً اتَّسع ليليق أَن يَستقبل حنانَ قبلة الحبيبة على الجبين. و»الإِشراق» عادةً يستعمَل للشمس فإِذا «نجمَةُ العمر» شمسُ الليل تُشرق نهارًا على عُمْر الشاعر. وكما الشمسُ واحدةٌ لا ثانيةَ لها، كذا الحبيبةُ، «نجمةُ العُمْر»، واحدةٌ لا ثانيةَ لها في حياة الشاعر.
ثم تأْتي «وأَنتِ على جبيني» لا توصيفًا بل إِشارةً إِلى الفضل الكريم بمعنى «لأَنكِ على جبيني لا أُواسيني»، وهنا «أَنتِ» - بمعنى «لأَنكِ» - تُخرجُ النثرية من النص وتقرِّبُه من الشاعرية وميلوديا العبارة.
في الفعلَين «أُواسيني» و»أُهنِّئُني»، وبينهما طباق جميل (المواساة والتهنئة)، حذْف «نفسي» أَو «ذاتي» لأَن الأُولى روحيةٌ (الإِنسان نفْس وجسَد)، والأَخيرة سيكولوجيَّة (طِباق الذات والسوى)، فتأْتي الياء بعد النون في «أُواسيني» و»أُهنِّئُني» لتضْبُط في كلمةٍ مركَّبةٍ كلمتَين مسطَّحتين.
ختامُ المقطع عبارتان جماليَّتان: «سنة جديدة سنابلُها أَنتِ» فتؤَدّي السنابل شَكْل الأَيام وتُبعِدُهُ عن النثرية المسطَّحة، وعبارة «تُذَهِّبُها شمسُ حنانكِ» فتَجمَع «ذهَبَ» السنابل (أَي أَيام الحُب الذهبية) إِلى «الدفْء» الذي انتقلَتْ أَشعَّتُهُ من طبيعيَّة الشمس إِلى شاعريَّة الحنان.
هكذا ينسُج الكاتبُ المباغتات الجمالية استعمالات هانئةً تجعل الأَدب متعة للكاتب والقارئ معًا.
الأُسبوع المقبل: نصٌّ جماليّ بدون شرح.




http://www.alriyadh.com/1897477]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]