استهل منديل الفهيد (تـ1425هـ) حديثه عن بني هلال بعبارات قال فيها: "لقصة رحيل بني هلال من الجزيرة العربية وجهان: أحدهما تاريخي موثق، وهذا الوجه لا يهمني، ويمكن للباحث مراجعته في كتب التاريخ، وثاني الوجهين أدبي شبه أسطوري، وهو الذي يهمني هنا لأنه جزء من أدبنا الشعبي"، وما كان يهُم الفهيد -رحمه الله- أي الأدب هو ما كان يهتم به أغلب الرواة الشعبيين، فالراوي يُدرك في قرارة نفسه أن دوره ليس تاريخياً بحتاً بقدر ما هو أدبي يهدف إلى إمتاع السامعين وكسب إعجابهم بالأشعار والقصص المسلّية التي يرويها لهم، لكن فئة من الرواة تحاول دائماً التأكيد على أن المرويات التي تنقلها تاريخٌ صحيح وثابت، ويحتجُّ الواحد منهم على صحة القصة المروية من الناحية التاريخية إمّا بوجود قصيدة لشاعر معين يراها تدعم صحتها، أو يحتج بحججٍ غريبة وغير منطقية لا يقبلها العقل.
ومن الأمثلة الطريفة على احتجاج الرواة على تاريخية مروياتهم بحجج غريبة مثال أورده الدكتور سعد الصويان في دراسته عن تداخل التاريخ والأسطورة، وذكر فيه أنه كان يستمع لأحد الرواة العاميين يروي أشعار وأخبار بني هلال، فروى أبياتاً لأبي زيد الهلالي قالها بعد أن قطع ذياب بن غانم رأسه، ومنها:
أوجست من راسي عظام تحدر
ومن عند حلقي تقل لقم زاد
لي ياهلي حطوا عليّ ركّز الحصا
يبيد الفتى واسمالهن جداد
ولأن مَن قُطع رأسه يستحيل أن يُفكّر في شيء فضلاً عن التفكير في نظم الشعر، فقد رأى الصويان الفرصة سانحة لمناقشة الراوي عن رأيه في مصداقية تاريخ السيرة الهلالية وحقيقة شخصياتها، فأصر الراوي على أنّ كل ما يروى في سيرتهم حقائق تاريخية، مُحتجاً بعدد من الأدلّة تبيّن مدى بساطة تفكيره.
فمن الأمور التي احتج بها على تأكده من صدق حادثة تتعلق بمقتل الزناتي خليفة على يد ذياب بن غانم قوله: "شايف صورته يوم أنا بسوريا، الدم يدرج من عينه الزناتي، ذياب ضربه مع عينه". فالراوي يظن أن الصورة المتخيّلة التي شاهدها في سوريا صورة حقيقية ودليل كافٍ على أن الحادثة تاريخ صحيح لا يجوز التشكيك فيه.
تداخل التاريخي والأسطوري في الأدب الشعبي لا يرتبط فقط بسيرة بني هلال، بل يرتبط بقصص عديدة مشهورة ومتداولة يفتتن بها المتلقي، وقد يرفض التعرّض لأي عنصر من عناصرها الأسطورية بالنقد، وأعتقد أن الجهد الكبير والرائع الذي بذله المدونون كمنديل الفهيد وعبدالله بن خميس وإبراهيم اليوسف وسعد الصويان، وغيرهم من أعلام الأدب الشعبي، خطوة أولى مهمّة ينبغي أن تليها خطوة ثانية لا تقل أهمية، تتمثل في إعادة قراءة روايات القصة الواحدة والمقارنة بينها لاكتشاف أوجه الاتفاق والاختلاف، والفصل بين ما هو أدبي (أو أسطوري) وما هو تاريخي، وللحديث بقية إن شاء الله.




http://www.alriyadh.com/1901559]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]