تحديدُ الشعر؟ كيف؟ مَن يجرُؤ؟ هل مَن يقارب كائنًا أَثيريًا لا شكل له ولا مدى؟
كائنٌ أَثيريٌّ يولَد معنا، فينا، بنا، لنا، لا يُعار ولا يُدار. يكون فنحيا به، أَو لا يكون فلا بلوغَ لنا إِليه.
بِتَهَيُّبٍ أَدنُو من حَرَم الشعر، معتذِرًا عن تَجَرُّؤِي على الوقوف في رحابه. لكنَّ النظَّامين تكاثروا، فحَرَمُهُ في انتهاك، وبات في ريبةٍ من جُموع الطافرين.
هذه الريبة وذاك الانتهاك ليسا مِمَّن آمَنوا بل من ضِعاف إِيمانٍ بسببهم يتخبَّط الشعر في هذيان إِشكاليّ يَطْلَعُ علينا بِاسم الشعر، لا في المضمون (فالأَفكار ليست إِلى استنباطٍ، شعورًا إِنسانيًا: عاطفيًا أَو وطنيًّا...) بل في تَبَنّي الشاعر لقصيدته صيغةَ تعبير. الشعر جسَدٌ وثَوب. وإِذا الجسَدُ عطيّةُ الله فالثوبُ من عمل الإِنسان.
رأْسُ الإِشكالات في صيَغ التعبير أَن كثيرين من الشعراء (وأَكثر الطالعين حديثًا على الشعر) خرجوا على الأُصول. الفن العالي يعيشُ بالخضوع للأُصول ويَموت بالانفلات منها. الخضوعُ للقِيَم والـمُثُل نَهْجٌ يوميّ، كما في الأَخلاق والفنّ والعلْم والطب والتكنولوجيا، كلَّ يومٍ نطبِّق الأُصول ونَخضَعُ لَها كي نأْمَن البَقاء. هكذا في الشعر: كلَّما تشدَّدنا بِها كان الشعر أَمتَن وأَبقى.
الإِشكالات لم تكن مرّةً في الخضوع للقِيَم بل في الخروج على القيَم. ضياعُ هويّتنا الشعرية شكلًا أَدّى إِلى خَلخَلتِها مضمونًا: تَقَنَّعْنا بوُجُوهِ سوانا، لسانُنا تعثَّر وبِتنا نفتِّش عن وجهنا. ولولا هذا الضياعُ لكُنّا نبحثُ في التجويد عوضَ البحث في التجميد. أَفَلَم يكن أَنفعَ لو كنّا نبحث في جَماليّات شعرِنا المعاصر عوضَ البحث في إِشكالات هذا الشعر؟
الاشتغال على البشاعات يُبَشِّع صاحبه من حيث لا يدري. والاشتغالُ على الجماليات يَزيد لُمَع الجمال في عينَي صاحبه ويَجعله يدري.
إِننا اليوم في حاجة إِلى إِعادة النظر في كلّ شيء وفي كلّ أَحد. تلزَمُنا قراءة جديدة تستعيد هويتنا الإِبداعية وأَصالتَنا الشعرية العربية (قياسًا على تَجربة كبارِنا في الشعر) وتُنقِذُنا من هذياناتٍ تطالعنا، تُسيْءُ إِلينا وإِلى الشعر.
دخولُنا حَرَمَ الشعر هو نَيْلُنا نعمةَ اقتبالِ واحدةٍ من أَغلى عطايا السماء. نعمةٌ لا يؤْتاها إِلَّا الأَصفياء. حالةٌ نادرة جدًّا من حالات الوعي في اللاوعي. معَها يكون الشعر، وهو الكلامُ الـمُغاير الـمَسكوبُ من رؤْيا الـمَسبوك في رؤْيَة شكليّةٍ ومضمونيّةٍ تَنقُلُك وتوصلك إِلى "الحالة الثانية". تَـمَسُّك بتلك القشعريرة الجميلة التي تلذُّك من دون لِماذا وتدَغدغُك من دون كَيف. فالقصيدةُ برقٌ وميضٌ يتركُ فيك رعدًا كثيرًا. والشعرُ اختزالٌ في التقاطِ هنيهةِ البرق. والشاعرُ مَن يعرف كيف يُشعل فيك لَحظةَ البرق ويَترك لك لَحظاتِ رعدٍ تتردَّد في اندهاشِك.
كيف إِذَن يكون الدخولُ إِلى حرم الشعر؟
الجواب: الخميس المقبل.




http://www.alriyadh.com/1903726]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]