إن استثمار اليوم الوطني لإطلاق مبادرات ثقافية تدريبية وتطبيقية يمكن أن يساهم في صنع الهوية السعودية المستقبلية، فلا يكفي أن نحتفل بيوم الوطن، وهي مناسبة مهمة دون شك نعيش ثمارها كل يوم، ولكن يجب أن يكون هذا اليوم ورشة مفتوحة للتفكير في المستقبل ومواجهة تحدياته
عندما يقترب اليوم الوطني ترتفع بعض الأصوات تتساءل عن "الهوية الوطنية الثقافية"، ولأن هذا المصطلح واسع جداً ويصعب تناوله في موضوع واحد، لذلك آثرت أن أحاوره عبر مبادرة وطنية قدمتها الفوزان لخدمة المجتمع منذ أكثر من ثلاثة أعوام ونتج عنها حوار مجتمعي حول الهوية الوطنية بمفهومها الواسع، كون المبادرة في جوهرها تهتم بثلاث قضايا أساسية هي فهم مخزون التراث الوطني والغوص فيه والبحث عن الأفكار التي تقدم هذا التراث خارج التقليد والتكرار. والثانية: تحسين الذائقة الجمالية البصرية على المستوى المجتمعي والحضري وتقديم مفهوم "المشهد الجمالي" بمحتوي ثقافي يمتد إلى جذور الهوية الوطنية. أما المسألة الثالثة فهي إحداث ممارسة تعليمية/عملية تدور حول تصميم "المنتجات" التي تتقاطع مع مخزون التراث وربط هذه الممارسة بالسياقات الاقتصادية التي تشجع على تطوير مصممين سعوديين قادرين على تبني مشاريعهم المستقبلية الخاصة في تصميم المنتجات وخلق سوق محلية لهذا النشاط قائمة على الثقافة المحلية غير المتكررة في مكان آخر في العالم.
هذه الأسس الثلاثة التي تقوم عليها مبادرة مجسم وطن جعلت من سؤال الهوية الثقافية الوطنية تظهر في جوانبها العملية التطبيقية وليس النظرية. أحد الزملاء في جريدة الرياض سألني في لقاء سابق إذا ما كان بالإمكان أن ترتبط هذه المبادرة بصنع في السعودية فقلت له إنه من حيث المبدأ هناك توافق كبير بين خلق بيئة إبداعية عملية تترجم أفكارها عبر مشاريع تنفذ على أرض الواقع، يراها ويقيمها الناس، وهو ما تقوم به مبادرة مجسم وطن، وبين مبادرة "صنع في السعودية" التي يفترض أن تركز على منتجات نوعية تعبر عن السعودية ككل وعن ثقافتها بوجه خاص. الخطوة المهمة هي خلق الثقة بالنفس لدى المصمم السعودي وفي اعتقادي أن تصاعد المشاركات السنوية في مسابقة مجسم وطن يشير إلى تصاعد الثقة في النفس لدى المصمم السعودي (ذكوراً وإناثاً). على أن خلق بيئة تنافسية إبداعية تحتاج أن نتحلى بالصبر وأن يرتبط برنامج المسابقة ببرنامج تدريبي إرشادي يجعل من هذه المبادرة تعليمية/تدريبية تساهم في الاقتصادي الوطني.
أعود لأسئلة الهوية بشكل عام، بعد هذه المقدمة المبنية على تجربة تطبيقية تتعامل مع تحديات الهوية كواقع مشاهد ومعايش وليس كفكرة تجريدية كما هو عادة النقاش حول هذا الموضوع. أحد طلاب الدكتوراه مهتم بالبحث عن الهوية، فقلت له: ما الهوية التي تبحث عنها؟ هل هي شيء مادي محسوس محدد المعالم يمكن أن نعمل على تحقيقه؟ الحقيقة أنه لم يستطع أن يجيب عن هذا السؤال، فدعاة الهوية المعيارية غالباً عاطفيون، المعيار لديهم هو الماضي، كما هو، وعندما تسألهم عن ماهية هذا الماضي لا يستطيعون تقديم إجابة مقنعة. بينما دعاة الهوية النسبية يتعلقون بمفهوم "القرارات" التي تتخذها المؤسسات والأفراد داخل المجتمع وكيف أن مجموع هذه القرارات هي التي تخلق الهوية، ومع تغير هذه القرارات تتغير الهوية، وكلما كانت هذه القرارات تستمد أفكارها وفلسفتها من الثقافة المحلية كلما كانت الهوية الجديدة أكثر تعبيراً عن الثقافة المحلية المرتبطة بالجذور ولكن في تسلسل تطوري وليس تكراري.
هناك نظرية مهمة لفهم ثقافة اتخاذ القرار بشكل عام تسمى "نظرية التركيب" Assemblage Theory وتهتم بشكل خاص بتفكيك "المركب" أي القرارات التي أدت إلى ظهور منتج ما، وإذا ما اعتبرنا "الهوية" هي منتج فيمكن فهم القرارات التي أوجدت هذا المنتج. يبدو أن خلق هذه القرارات تحتاج إلى صناعة وعي ثقافي عملي وتطبيقي قادر على تجسيد هذه الهوية التطوّرية، كما أنه يجب أن تكون هذه القرارات ضمن العقل الكامن لدى الأفراد والمؤسسات، الذي يقودهم عفوياً إلى إنتاج الهوية الجديدة دون أي قصدية. في اعتقادي أن بناء مبادرات عملية ذات عمق ثقافي مثل مبادرة مجسم وطن سوف تساهم في تغذية العقل الكامن لدى المؤسسات والأفراد وسيتيح لهذا العقل أن يدخل في تجارب عملية حقيقية يمكن نقدها وتقويمها وتطويرها.
إن استثمار اليوم الوطني لإطلاق مبادرات ثقافية تدريبية وتطبيقية يمكن أن يساهم في صنع الهوية السعودية المستقبلية، فلا يكفي أن نحتفل بيوم الوطن، وهي مناسبة مهمة دون شك نعيش ثمارها كل يوم، ولكن يجب أن يكون هذا اليوم ورشة مفتوحة للتفكير في المستقبل ومواجهة تحدياته. مجسم وطن في موسمها الثالث امتدت إلى العاصمة الرياض وخلال أيام تحتفل بتدشين ميدان العرضة ومجسم عنان السماء في مدينة الخبر، وكلها أعمال صممت بأيد وطنية خلاقة، وأنا على يقين أن المواسم القادمة ستفتح مجالات واسعة للتفكير الإبداعي خارج الصندوق.




http://www.alriyadh.com/1907846]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]