كثيراً ما نواجه السؤال: "كيف نقرأ الشعر؟" وهو سؤال يعيد النّقد الأدبي إلى تاريخه المرتبط بتفسير النصوص وتأويلها، والذي ظهر في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ولا يزال أنصاره يمارسون مهمّتهم لجعل الشّعر مادّة مفهومة للعامّة. لكنّ مدارس النّقد تنوّعت تماماً كمدارس الشعر نفسه، وأصبح النّقد عالقاً بين البحث عن المعنى والبحث عن القيمة، بين تاريخية الخطاب وشاعريته، وبين العقبة النّقدية التي تسعى إلى البحث في أسراره. حتّى أننا نجد أنفسنا أمام باب كبير مفتوح على مصراعيه إذا ما أردنا إدخال الشعر في الآلة النّقدية، فهي تأخذ النّص كمادة وحيدة متماسكة، وتخرجه متعدِّدًا، زاخراً بالمعاني، والصور والأفكار. يُقال هنا إن سلطة القراءة والنّقد -وكلاهما مرتبطان ببعضهما بعضاً ترابطاً قوياً- تكمن في التأويل، وفي هذا السيّاق لا يمكننا سوى أن نتّفق مع الشاعر شوقي بزيع فيما ابتكره بشأن النقد الأدبي على أنه "ليس علماً صلباً" وشبه يقيني كسائر العلوم بل هو علم "ليِّن" وهذا وفق مقدمته لكتابه "مسارات الحداثة، قراءات في تجارب الشعراء المؤسسين" الصادر مؤخراً عن كلِّ من مسكلياني للنشر والتوزيع (تونس)، ومنشورات الرّافدين (بغداد).
شوقي بزيع نفسه من الشعراء الذين نجوا من الأزمة التي ضربت الشّعر والشعراء في العالم العربي، فقد حظي بجمهور وشعبية في أكثر أزمنة الشعر قحطاً، وبرز اسمه في الصحافة العربية متميزاً بذكاء نقدي مرتبط بفضيلة الشّعر، حتى أمكن اعتباره "حالة استثنائية" في مشهدنا الأدبي.
في كتابه "مسارات الحداثة" يقدم لنا ملخّصاً شاملاً عن مفهوم الحداثة، بالأسلوب الذي تهضمه كل الفئات الرّاغبة في فهمه، يأخذنا إلى المنابع متفادياً إدخالنا إلى المتاهات المظلمة لتطوّر الشعر ومخاضاته العسيرة، مكتفياً بما يضيء على أهمّ حقباته، وذلك من خلال مقدّمة طويلة نسبياً، يمكن اعتبارها الموجز النظري لعشرات الكتب النقدية حول الموضوع والخلفية الثقافية الثرية جداً لقلم بزيع النقدي، قبل انتقاله إلى موجز تطبيقي من أربع وعشرين اسمًا من مشاهير شعراء المشرق العربي (لبنان، مصر، العراق، فلسطين، سوريا) وشاعر واحد من السودان هو محمد الفيتوري، مثّلوا جميعهم شكل القصيدة العربية بردائها الحداثي، بعد أن كسروا القيود الشّكلية التي ظلّت سجناً يحاصرها بقوالب صارمة شكلاً ولغة ومحتوى.
وإن كانت لغة النّقد ثقيلة ومثقلة بالمصطلحات والتوصيفات الصعبة، إلاّ أن لغة بزيع النّقدية شيّقة ولطيفة، كما عهدناه في مقالاته، وقد تميّزت مادته ببصمة جمالية وليدة تجربته الشعرية، وقد أثمرت أن جعلت قراءاته ومقارباته ممتعة، وجعلتنا نفهم طبيعة الشّعر، وأشكاله الأكثر إثارة للدهشة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين كشفت عن العلاقة الوطيدة بين الشعر واللغة، وبين اللغة والوعي، وتأثير ذلك على موقعنا على السلم الحداثي ومدى تأثير ذلك على تقدمنا وتأخرنا مقارنة مع العالم.




http://www.alriyadh.com/1907847]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]