المسلم له وجه واحد لا يتغير ولا يتبدل ولا يتنكر ولا يتقمص شخصية غيره، وتتسع أخلاقه وترتقي حتى يتسع للصغير والكبير، ويعطي كل ذي حق حقه، وإن لزم الأمر أغلظ أو جفا أحياناً ولكن هذا كالترياق يستخدمه لعلاج الأدواء، بينما هو ذاك الظاهر الذي لا يأتي تحت أي معرف أو وجهٍ آخر..
لا يحتاج كثيرًا من الوقت كي يعطيك تعريفًا شاملاً مانعًا للنفاق العملي، ثم يسترسل في إدخال كثير من الصور والتصرفات المجتمعية في هذا التعريف، وربما تفنن في ذم ذي الوجهين، وحق له ولكل مسلم ذم ذي الوجهين، كيف لا؟! وفي الصحيح: تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه. وهو حديث قد يستغرق معناه ما يفعله كثير من الناس في هذا الزمن، لا سيما وقد أتيح لكل أحد أن يتقنع بعدة وجوه، وليس بوجهين فحسب.
لقد فعلت مواقع التواصل وتطبيقات المحادثات في المجتمعات فعلتها، وكشفت عن عالم يسمونه بـ"الافتراضي" وهو عالم حقيقي يجسده أولئك الذين تصادفهم في طريقك، أو تلتقي بهم في عملك، أو في المسجد، أو في المدرسة، وإن تجاوز الأمر محيطك فستجد هذا العالم الافتراضي مجاوراً لك، بل ربما كنت منغمساً فيه، أو لو صارحت نفسك فقد تجدها ممن يجسد هذا الواقع!
إن التلبس والتخفي خلف معرفات وهمية في كثير من هذه المواقع قد جعل الأمر يبدو افتراضيًا حقيقةً، ففلان من الناس في معرّفه العام ذاك الخلوق المتدين المؤدب، وهو في معرف آخر سليط اللسان بذيء الكلام، يصادم بكلامه هنا ما يقرره هناك! فهو شخص آخر مناقض لما يظهره في شخصيته العامة ومظهره المعروف! وكثير من مستخدمي هذه المواقع يقبل في (الخاص) ما يتعفف عنه ويبرأ منه في (القروب)! وهذا هو تفسير "ذي الوجهين" مطابقة، وقد يصل الأمر إلى ما لا يتصوره عاقل من كذب وإساءة ونميمة ووشاية وإشاعة وبث فتنة تحت تلك المعرفات والأسماء الوهمية.
إن استخدام وسائل التواصل بهذه الطريقة المخالفة للحقيقة والمصادمة لآداب الإسلام لهي من أكثر الأبواب التي تدخل منها الخصومات بين أبناء المجتمع الواحد، وهي أيضًا من أوسع مصادر الأخبار الكاذبة والتي قد تسبب إرباكًا مجتمعيًا في كثير من الأحايين، وقبل أن تبدأ الجهات المختصة في علاج مثل هذا بالطرق والأساليب الرقمية الحديثة، يجب أن تجد المجتمعات من منابر الوعظ والإعلام القدر الكافي من التوعية بأهمية المحافظة على الوجه الواحد من دون التلبس بقناع آخر والدخول في زمرة "شر الناس" فإنه ليس بالأمر الهين أن تعلم من نفسك أنها من أولئك الأشرار أصحاب الوجوه المتعددة، ومع ذلك تحاول جاهدًا أن تجد لكل وجه متابعين وجماهير حتى تصبح أنت بنفسك لا تدري ما وجهك الحقيقي بين تلك الوجوه!
وليس منه هذا أبدًا تغيير معاملتك للناس بحسب طبائعهم وأخلاقهم مع تمسكك بشخصيتك وأسلوبك وأخلاقك التي يعرفك بها الناس، ففي الحديث الصحيح: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة. فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره.
فذاك شر الناس لتعدد وجهه، وذاك شر الناس لسوء أخلاقه، بينما المسلم له وجه واحد لا يتغير ولا يتبدل ولا يتنكر ولا يتقمص شخصية غيره، وتتسع أخلاقه وترتقي حتى يتسع للصغير والكبير، ويعطي كل ذي حق حقه، وإن لزم الأمر أغلظ أو جفا أحياناً ولكن هذا كالترياق يستخدمه لعلاج الأدواء، بينما هو ذاك الظاهر الذي لا يأتي تحت أي معرف أو وجهٍ آخر. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1913237]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]