إن الأمر أشبه ما يكون بزلزال يهز قناعات الناس وقيمهم فتنقلب حياتهم رأساً على عقب. وما النتيجة بعد هذا كله؟ إنه القلق المستمر والاكتئاب الذي يتزايد بين الناس والمشاهير أولهم، وقد صرح بهذا كثير منهم، ومع هذا يستمرون في غيهم..
من أين هذه الملعقة؟ ومن أين هذا المقعد؟ ومن أين هذه الرموش؟ أسئلة كثيرة من هذا النوع أراها في حسابات بعض مشاهير الإعلانات يستقبلونها من متابعيهم من باب الفضول الشديد لمعرفة كل تفاصيل ما تلتقطه أعينهم من الشاشة، وهي أسئلة سببت لي صدمة فكرية، وسألت هل يعقل أن تكون هذه الأسئلة حقيقية أو أنها مفتعلة من قبل المعلن؟! وهو أمر أكثر شيوعاً بين النساء، ولكن هذه الصدمة انحسرت بعدما أيقنت بأن المتلهفات على كل ما تظهره لهم المعلنة في شكلها أو بيتها هو حالة مرضية شديدة، حسبت في البداية بأني أول من اكتشفها حيث قلت لمن صارحتهم باكتشافي العظيم: هل تعرفون أننا بدأنا نواجه اضطراباً نفسياً سلوكياً سيسمى متلازمة السوشال ميديا، فضحكوا مني وأخبروني بأنه اضطراب سُبقت إليه، وأن هذه الحالة تسمى (Fomo) اختصاراً لجملة (Fear of missing out) وتعني الخوف من أن يفوتنا شيء! وهو اضطراب يعاني منه معظم من يتابعون المشاهير طوال يومهم، ويخافون أن يفوتهم شيء من الأخبار أو الأحداث أو ديكور بيوتهم ومقتنياتهم.
والحمدلله أنه بقي لي من فكرتي شيء جديد لم يسبقني إليه (دان هيرمان) ولا (باتريك ماكيجينيس) وهما أول من أشار إلى هذه الحالة. أما أنا فإضافتي سلمكم الله هي: أن هذا الاضطراب ناتج من نهم شديد مرده جوع فضولي ورغبة قوية في التقليد لدرجة أن المصاب لا يقيم نفسه إلا من خلال نجاحه في تقليد ما يراه على شاشته. والأمر أيضاً لم ينج منه المعلن نفسه، فالمتلقي نهم لتقليد ما يرى والمعلن نهم في الاقتناء، فالفكرة ليست في الخوف مما يفوت فقط، ولكن الخوف من ألا يكون مقلداً جيداً لكل ما يقترحه عليه المعلن، ولكل ما يراه في بيته من مواد استهلاكية وكماليات مبالغ فيها.
والطريف أن بعض المعلنين المشاهير يقدمون دروساً مجانية في التقليد بلا وعي وبطريقة مباشرة وغير مباشرة وكأنهم يقولون لكي تحيا حياة طيبة قلد فلاناً وفلاناً وفلاناً.
لا أظن أن حمى التقليد تؤرقني وحدي فقط فهي حقيقة تدق جرس خطر اجتماعي واضطراب له أبعاده السيئة جداً على النفس الإنسانية أولاً ثم على أحواله الأخرى الفكرية والمادية والعلاقات الاجتماعية.
وإذا عدت إلى نقطة البداية وهي النهم أتذكر (إيميلدا ماركوس) زوجة الرئيس الفلبيني السابق المتهمة بالفساد، والتي كانت مصابة بنهم الاقتناء، وكان من أشهر وأغرب ما كانت تقتنيه بنهم هو الأحذية التي بلغ عددها 2700 زوج من الأحذية، وكانت في ذلك أثارت ضجة عالمية! اليوم معظم المشاهير من النساء والرجال مصابون بهذا النهم، فعندما يعلن أحدهم عن عطر ما سيعرض لك أرفف العطور في غرفته وعليها كميات لا تنفد ولو بعد أعوام، والغريب أنه حتى عندما يسافر ستجد معه كمية لا تتناسب مع رحلة لا تحتمل أيامها كل تلك الكمية من العطور المرصوصة!
أما النساء فليس من قبيل الصدفة أنهن جميعاً لا يصورن أنفسهن إلا في غرف الملابس حيث تظهر الخزائن كخلفية تعرض فيها الحقائب والملابس والأحذية وما هذا إلا لاستعراض ما يملكن وقد أوصلتهن هذه الحالة إلى أنهن أصبحن كالشحاذين الذين يسألون الناس إلحافاً بأسلوب مكشوف ومخجل لهم ولكنهم يعتقدون بأن كل مشاهد غبي!! فتأتيهم العطايا التي يسمونها هدايا حتى وصل ببعضهم أن يعلن وهو على سرير المرض أو سرير الولادة مقابل تلك الهدايا المجانية. وهذه الحالة الشحاذية تلبست حتى من كانوا في حالة مادية ممتازة قبل الشهرة! وفي النهاية فكل هذه التصرفات هي رسائل لمتابعيهم من أصحاب النفوس الهشة والفارغة لكي تتشبه بهم..
والأمر لا يتوقف عند حدود تنامي الاستهلاك غير الطبيعي للكماليات فقد تخطاه إلى ما هو أهم فقد اخترقوا حياة بعض ضعفاء الوعي في حياتهم الشخصية وعلاقاتهم الأهم وهي علاقاتهم بالأزواج والأبناء فتصدعت علاقاتهم أو انهارت أحياناً، ولنا أن نتحدث عن نوع جديد من التخبيب بين المرء وزوجه وهو تخبيب السوشال ميديا، وأرقام الطلاق المرتفعة جداً مؤخراً تشير إلى أن كثيراً من هؤلاء كرهوا حياتهم بعد أن مستهم حمى النهم وأصبحوا يريدون كل ما يرون ولهذا يطرقون كل باب للحصول عليه مهما كانت النتيجة!
وأضف إلى ذلك حمى تقليد التشابه الجسدي بواسطة عمليات التجميل فكلهن أصبحن متشابهات في الوجوه والأجساد فهذه تريد أن تشبه فلانة والأخرى تريد أن تشبه علانة، حتى صارت عمليات التجميل كبضاعة تشترى من البقالة ومتاحة لكل ناقص وعي.
إن الأمر أشبه ما يكون بزلزال يهز قناعات الناس وقيمهم فتنقلب حياتهم رأساً على عقب. وما النتيجة بعد هذا كله؟ إنه القلق المستمر والاكتئاب الذي يتزايد بين الناس والمشاهير أولهم، وقد صرح بهذا كثير منهم، ومع هذا يستمرون في غيهم.




http://www.alriyadh.com/1922550]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]