الإنترنت تخصّصها التشتيت. هذا مما أتى في كتاب "المياه الضحلة The Shallows" للكاتب العلمي نيكولاس كار، وهو كتاب شرح فيه ما تفعله الإنترنت بالعقل البشري، وقارَن بين قراءة الكتب المطبوعة والقراءة على الجوال أو الحاسب، وما أكبر الفرق!
استخدام الإنترنت (حتى للقراءة) تجربة مختلفة تماماً عن القراءة من الورق، وهذا ما يشعر به العقل نفسه، فالقراءة على تلك الأجهزة تمتلئ بالتشتيتات كالروابط الموجودة في النص والدعايات وإشعارات الرسائل والكثير غير ذلك، ناهيك عن أن الوسط نفسه يفرض على مخك أن يفكر في الرسائل الإلكترونية والمحادثات والأخبار، أما القراءة من الورق فأفضل بمراحل، في دراسة لجامعة واشنطن فَحَص الباحثون أدمغة قارئي القصص باستخدام تقنية تصوير الدماغ، وجدوا أن القارئ يحاكي ذهنياً كل مشهد جديد يراه في سياق القصة، تفاصيل الأحداث والأحاسيس، يأخذها من النص ويُركبها بتناغم مع تجاربه الماضية. مناطق المخ تقلد المناطق التي تعمل عندما يقوم الناس بأعمال حقيقية أو يتخيلونها أو يرونها.
تقول العالمة القائمة على هذا البحث: إن القراءة العميقة ليست ممارسةً خاملة، بل إن القارئ يصير الكتاب. لم يكن لتراثنا الأدبي أن يتكون بدون التبادل الحميم بين القارئ والكاتب من خلال الكتاب.
بعد اختراع غوتنبيرغ للطباعة عام 1447م توسعت حدود اللغة بتسارع، وذلك ليحاول الكُتّاب التنافس على أعين القراء الذين زادوا ثقافة واطلاعاً، وصار الكاتب يسعى أن يعبر عن أفكاره ومشاعره بطرق أوضح وأجمل وأذكى. مثلاً كلمات اللغة الإنجليزية التي كانت مقتصرة على بضعة آلاف توسعت إلى مليون كلمة لما انتشرت الكتب. الكثير من الكلمات الجديدة حوت معاني تجريدية لم توجد من قبل. أخذ الكتاب يجربون في تركيب الجمل وفي الإنشاء، وفتحوا طرقاً جديدة للتفكير والتخيل، ومشى القراء معهم.
مع توسع اللغة تَعمّق الوعي، وهذا التعمق تجاوز الصفحة. يقول كار: إن القراءة وكتابة الكتاب حسّنتا تجارب الناس مع الحياة والطبيعة، ويقول أحد العلماء: إن براعة الأدباء الذين قدروا أن يحاكوا التذوق واللمس والشم والسمع وذلك فقط بالكلمات، هذا تَطلّب من الكتّاب وعياً وفهماً عاليين ومعاينةً قريبة للأمور الحسية، وهذا ما نقلوه للقارئ. الكاتب - مثل الرسام والموسيقار - استطاع أن يغيّر الإدراك بطريقة أغنت إحساس القارئ بالمواقف والظروف بدلاً من أن تقللها، طريقة زادت تعاطف وتفهّم القارئ لأنواع مختلفة من البشر بشتى أنواعهم وألوانهم وظروفهم وتجاربهم. إن الكلمات في الكتاب لم تقوّ قدرة الناس على التفكير التجريدي فحسب، بل أغنت تفاعلاتهم مع العالم المحسوس، العالم خارج الكتاب.
ما أحسن القراءة العميقة الهادئة..! إنها تزيد حجم وجودة العالم الذي تعيش فيه أضعافاً.




http://www.alriyadh.com/1922577]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]