أيام المرحلة المتوسطة.. كان مدير المدرسة "سلطويا" إلى أقصى حد، لا يعرف من العملية التربوية إلا مراقبة الطلاب وملاحقتهم، حتى في "الفسحة" التي كنا نتطلع فيها إلى وجبة إفطار هانئة، وقليل من اللهو، لم نسلم من نظراته وهو يرمقنا من بعيد.
كان مفرطا في الصرامة، وإذا زل طالب، استشاط غضبا، والتفت إلى الوكيل الذي يلازمه كالظل في جولاته التفتيشية، وصرخ: "عطه ملفه"، إلى درجة أننا إذا اشتركنا في المسابقات المدرسية، كان طلاب المدارس المنافسة يقلدون مديرنا، ويرددون علينا باستهزاء "عطه ملفه"، ورغم تفوقنا علميا ومعرفيا، إلا أن هذه "الحرب النفسية" زعزعت ثقتنا بأنفسنا ودمرت معنوياتنا، فعجلت بخروجنا من مسابقات الوزارة!
ذاك كان أسلوبا بغيضا في المتابعة، ولعل وضع مدرستنا لا يختلف عن بعض بيئات العمل عندما نرى مديرين يتبعون أسلوب الإدارة التفصيلية (micromanagement)، فأولئك هم نسخ مماثلة من مديرنا أو من حضرة "الناظر" كما في "مدرسة المشاغبين"!
إن الإدارة التفصيلية تعطي من يمارسها شعورا وهميا بالسيطرة، وهو في الواقع يهدر جهده ووقته في التدخل في صغائر الأمور، دون أن يعطي الموظفين أي هامش من الإبداع أو الحرية، وفي النهاية تكون محصلة المنجزات معدومة.
الخبير القيادي "إيريك ماكنلتي" يقول إن الإدارة التفصيلية تتعارض مع نظريات التحفيز، فمثلا نرى أن نظرية تقرير المصير (أو التحديد الذاتي) تتطلب توفر ثلاثة عناصر لتحفيز الفرد، هي: القدرة، والاستقلالية، والانتماء، مبينا أن الإدارة التفصيلية تنسف كل هذه العناصر!
ويضيف الخبير نقلا عن عالمة الأعصاب "دونا فولبيتا" أن الأمان والاستقلالية هما أهم احتياجات الدماغ، ويقومان على الثقة، لذلك فالمديرون الذين يزرعون الثقة في نفوس موظفيهم، يعززون عندهم الشعور بالأمان والاستقلالية، وبالتالي يرتفع عندهم مستوى الولاء، بينما إذا اتبع المدير أسلوب الإدارة التفصيلية، أثر ذلك سلبا على العمل وتولدت عند الموظفين سلوكيات المراوغة.
شخصيا، كان إذا دخل زميل من الفريق مكتبي يريد حلا لمشكلة، وكانت هذه المشكلة ليست عاجلة أو متأزمة، أطلب منه أن يعود ليبحث عن حلول بنفسه، حتى لو كانت الحلول عندي جاهزة ومعلبة، ليس ضنا وتمنعا عن المشاركة بخبرتي الإدارية، وإنما حرصا على تطويره بتحقيق أربعة أهداف، هي:
(1) تنمي الثقة في نفس الموظف وتحفزه، بأنك تعطيه رسالة "أنت المسؤول عن الحل"، (2) تمنحه فرصة تدريب على حالة واقعية، وهنا تطور مهاراته في حل المشكلات، (3) تختبر "طبيعة" الموظف.. اتكالي أم مبادر؟ وإذا كان الآخر فهو مؤشر على تمتعه بسمات قيادية محتملة، (4) قد يبهرك الموظف بحلول للمشكلة تتفوق على حلولك كمدير.
كنت وما زلت أكره أسلوب حضرة "الناظر"، مفضلا طريقة معلم الرسم، كان يطلب منا في الحصة أن نرسم لوحة، ويعطينا الفكرة ويحدد المعايير، فيطلق العنان لإبداعنا، وقبل أن يرن الجرس، تكون على طاولته لوحاتنا، كل لوحة أجمل من الأخرى!




http://www.alriyadh.com/1933742]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]