درس عظيم لكل مسلم كان عالمًا أو جاهلاً حاكمًا أو محكومًا، في ترك الغوص في نيات الآخرين والتعمق في تفسير إراداتهم وفقًا لعاطفة أو اجتهاد حماسةٍ، وبذلك نتخلى عن أصل عظيم في التعامل مع الآخرين، ونؤسس لخطأ جسيم يتيح ويفسح للانتقامات الشخصية..
النية أساس كل عمل، وبداية كل غاية في "الخير والشر" وفي "الفشل والنجاح" ولا يخلو عمل الإنسان من نية، إلا في الأحلام حيث يتحرك بلا إرادة، فإن الإنسان في حياته لا يتحرك إلا بإرادة وعزيمة لأي عمل كان، وبديهة مذ خلق الإنسان اتجهت الإرادات وتنوعت بحسب ما أراده الله للإنسان قدراً، حين خلقه «إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً» وفي قصة ابني آدم كان ما قصه الله بينهما راجعًا إلى قول أحدهما »إنما يتقبل الله من المتقين» والتقوى انطلاقها من القلب، ومدارها على "فعل أوامر الله واجتناب نواهيه، ابتغاء مرضاته" فخلو العمل من نية فعله لوجه الله يخرجه عن مسمى العبادة والتقوى، إلى مسمى آخر تحدده النية، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
في شريعة الله للنية مرتبة منيفة وعظيمة في تحديد الأحكام وتنزيلها على الآخرين، وقد يتوقف على ذلك استحلال دماء وعصمتها، وفي الصحيحين في الواقعة المشهورة عن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: بعثَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فَلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لِي: يَا أُسامةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ.
وفي روايةٍ: فَقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَومَئذٍ.
وهذا درس عظيم لكل مسلم كان عالمًا أو جاهلاً حاكمًا أو محكومًا، في ترك الغوص في نيات الآخرين والتعمق في تفسير إراداتهم وفقًا لعاطفة أو اجتهاد حماسةٍ، وبذلك نتخلى عن أصل عظيم في التعامل مع الآخرين، ونؤسس لخطأ جسيم يتيح ويفسح للانتقامات الشخصية ويهدر حقوق الآخرين بتصرفات كيدية، لا يسمح بها حال المسلم الظاهر.
وإذا ما أتينا إلى الأعمال والعبادات، ففي ذلك تتفاوت النظرات وتتغاير الأحكام الظاهرات، فقد تجد نائمًا تجري أقلام الملائكة بكتابة نومه حسنات ترفع بها الدرجات، وليس ذلك إلا لما نواه بنومه، فقد يكون نوى به التقوي لقيام ليل، أو لزيارة مريض، أو لطاعة والد، أو لإعانة ملهوف أو لأي فعل من أبواب الخير، وفي المقابل قد تجد قائمًا يصلي الليل، ليس له من قيامه إلا السهر، كما أنك تجد صائمًا ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش كما جاء في الحديث، وقد يرجع ذلك إلى سوء نية، أو إلى نيات مرادفات استكثر بها من الأخطاء والإساءات التي بددت عبادته.
النية في كثير من الوقائع والتصرفات تحدد اتجاه المسلم وتفسر أفعاله، وفي الفقه مثلاً جاء في الحديث: "من جرَّ ثوبهُ خيلاء، لم ينظُرِ اللهُ إليه يومَ القيامةِ" فقال أبو بكر: إنَّ أحدَ جانبَيْ إزارِي يَسْتَرخي، إلا أن أتعَاهَدَ ذلك منه، قال: "لستَ مِمَّنْ يفعلُهُ خُيلاء" فقد علق الفقهاء المحرم من الإسبال بما اقترن بنية التكبر وهو ظاهر في تخصيص ما أطلق في ذلك. فبان بهذا أن من أهم الواجبات على المسلم تعاهد نيته، وتفقد قلبه، في كل وقت، يصلح ما فسد منه، ويصحح ما أخطأ فيه. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1946206]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]