تسأَلُني عن الطريق، أَنتَ في صباح الربيع وأَنا في خريف العمر، عن خلاصات تجربتي الأَدبية خلال ما قطعتُ حتى اليوم من الطريق.
أَيَّا تكن الخلاصات فهي تبقى نسبيةً لي، لأَن التجربة الأَدبية دائمًا شخصيَّة، تنبع من صاحبها ولا يمكن أَن تتعمَّم على السوى، خلا بعض أُسسٍ / ركائزَ يجدُر بكل موهوب أَدبيَّا أَن يعتمدها في اتّباعه طريق الأَدب.
من تلك، مثلًا، عدمُ الاتِّباع، ولو أن كلَّ داخلٍ جديد إِلى فردوس الأَدب لا بُدَّ أَنَّ لديه نموذجًا يحتذيه سيرةً أَو مسيرةً (ولا أَقول "يقلِّده"، لأَن التقليد يؤْذيه فلا يمكنُه لاحقًا أَن يتبرَّأَ من تهمته). وبـ"عدم الاتباع" أَقصد محاولةَ الوصول إِلى "جديد شخصي"، ولا قيمةَ هنا لمقولة "لا جديدَ تحت الشمس، وكلُّ ما يقال سبَقَ أَن قِيل"، لأَن "ما قيل" إِنما قيل في لغةٍ ما، بأُسلوبٍ ما، ضمن سياقٍ ما، وتاليًا يبقى التفرُّد لا في"ما قيل" بل"كيف يقال" من جديد. هنا دعوتي إِليك أَن تتفرَّد منذ بداياتك بـ"كيف" تكتبُ لا بـ"ما" تكتب.
في بحثكَ عن جديد لكَ خاص، حاولْ أَن تتخلَّص من غبار السرد والتوصيف والإِطالة، فنَفَسُ القارئ ليس مُلْكَك ولا وقتُه ولا مزاجُه. عليك احترامُ قارئكَ بقدْر احترامِكَ ذاتَك. صحيح أَنَّ القارئ هو المتلقّي وأَنت الـمُعطي، لكنه شريككَ، فالعطاء تَلَقٍّ آخَر. أَيُّ قيمةٍ لِما تُعطي إِن لم يكن في بالكَ مَن يتلقّى؟ واستطرادًا: ما قيمةُ وردةٍ متَّكئةٍ على سياج، إِن لم يمرَّ بالسياج أَحدٌ يشُمّ عطرها؟ وأَيُّ صدى لبلبل يغرِّد في قعر الوادي إِن لم يَكُن في الوادي من يسمع زقزقته؟
كيف يكون ذلك؟ بأُسلوب لكَ متوهِّج الإِيقاع، متوتِّر النبض، يستتْبع صفاءَ لغة خالية من الغبار. وبـ"الغبار" هنا أَقصد مفرداتٍ في اللغة مكررةً مأْلوفة مستهلَكة مخشَّبة واردة لدى معظم الكُتَّاب حتى لتخرج باهتةً لدى أَيِّ استخدام لها إِضافي. صحيح أَن لغتنا العربية غنية، بل متفرّدة بمفردات ومرادفات وتراكيب ومقولات، لكنها - وهنا عبقريتُها - تتوهَّج أَكثر حين يأْتيها مَن يقطفها مصفَّاةً من الغبار "المفرداتي"، فيُنقِّيها بالإِيجاز، وما يعبَّر عنه عادةً بعشر كلمات تعبِّر عنه أَنت بخَمْس، فتضيْءُ الجملةُ بتنفُّسٍ مُشْرق عوض طمْسِها في إِطالات تَخنُق توهُّجها.
كلُّ هذا التجديد لا يمكنكَ أَن تأْتيه إِن كانت اللغةُ "وسيلة" لك، تستخدمها "أَداةً" لإِيصال أَفكارك، فمفرداتُها إِماء لديكَ بلا حياة. هذا خطأُ معظم الكُتّاب. عليك أَن "تُحبّ" اللغة فتختار من المفردات أَجملَها، ومن التعابير آنقَها، ومن التراكيب أَوجزَها، حتى تفرح بك اللغة فتعطيكَ أَبهى ما لديها. ومتى أَحببْتَها وارتاحَت إِليك، يمكنكَ التجديد من داخلها باستيلادها ما لم يأْتِهِ سواكَ الذي يجعلُها مجرَّد أَداةٍ ولا يحبُّها. ومتى أَحسَّت اللغة أَنكَ معنيٌّ بها، تنساق إِليك مصفَّاةً بهية، وهنا تكون فرادتُكَ، وهنا يتميز أُسلوبُكَ، وتلبس معانيكَ ثوبًا جميلًا تجذبُ به متلقِّيكَ إِلى قراءتكَ. فالأُسلوب هو الشكل، والمعاني كواكبُ المضمون، ومتى كان الشكل متوهجًا، يسوغ بلوغُ المضمون بأَسهل اتصال بينكَ وبين قارئكَ.
ماذا بعد؟.. إِنتظرني في رحاب "الرياض" نهار الخميس المقبل.




http://www.alriyadh.com/1949199]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]