أول ما ينبغي أن يحجز المسلم عن الوشاية شدة حرمتها وكونها من كبائر الذنوب؛ إذ هي النميمة التي هي من خصال السوء التي ذكرها الله تعالى في سياق ذمِّ صاحبها، فقال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) وورد فيها الوعيد الشديد، كما في حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ» أخرجه البخاري.
من اللائق انسجام المتعارفين وحسن العلاقات بينهم، وبقاء الثقة بين الشركاء وبين ذوي الأرحام وبين زملاء العمل ونحوهم، وهذا اللائق إنما يحرص على حصوله حكماء الناس الذين تتسع آفاق نظراتهم إلى الحياة ويغلبون جوانب المصالح، ويعجبهم سداد أمور الناس، ويحب أحدهم للخلق من المنافع ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، أما من كان ضيق الأفق قاصر النظر فيستثقل أن يرى علاقات مستقرة ومودة صافية، ويتخيل أن وجود الوئام بين فلانٍ وفلانٍ يحجب عنه مصلحة لو تنافرا لحصلت له، أو يجلب له مفسدة إذا تباعدا اندرأت عنه، هذا في أحسن أحواله، وقد يُدرك أن لا مصلحة له عند الطرفين مطلقاً، ولا يتهدده اجتماعهما، لكنه ينطوي على حسدٍ وغِلٍّ يحملانه على كراهية الخير للناس، وتمني زوال كل نعمةٍ حصلت لغيره، ويعرف أن التآلف بين اثنين من أيمن النعم وأفيدها، فيحسدهما ذلك كما يحسدهما المال والجاه والذرية وغيرها من المكاسب، وأجدى ما يستخدمه لفكِّ الارتباط بينهما الوشاية ونقل السوء بينهما، ولي مع ظاهرة الوشاية وقفات:
الأولى: أول ما ينبغي أن يحجز المسلم عن الوشاية شدة حرمتها وكونها من كبائر الذنوب؛ إذ هي النميمة التي هي من خصال السوء التي ذكرها الله تعالى في سياق ذمِّ صاحبها، فقال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) وورد فيها الوعيد الشديد، كما في حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ» أخرجه البخاري، ثم إنها لو لم تأت فيها تلك النصوص الزاجرة زجراً بالغاً، لكانت شناعتها معلومة ومتقررة من منظومة القيم والأخلاق السامية التي جاءت بها الشريعة؛ وذلك لأن في الوشاية تقويضاً لتلك المنظومة، فقد جاء الإسلام بتوطيد المحبة بين المؤمنين ووصفهم بالإخوة، وبما أن الإخوة قد تحدث بينهم بعض الاحتكاكات العابرة أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا حدث بينهم شيء من ذلك فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، فهذه الآية توجه إلى رأب الصدع إذا حصل بين المؤمنين حتى يصبح الفساد صلاحاً والتباعد تقارباً، ومساعي الوشاة تناقض هذا التوجيه؛ لمحاولتهم صدع الاجتماع، وإفساد الصلاح، وتحويل الوئام إلى توترٍ وتدابرٍ، وفي هذا معاكسة لما جُبلت عليه النفوس السوية.
الثانية: متقبل الوشايات والـمُصغي إليها يدرك أنه يُصغي إلى نمَّام واقعٍ في كبيرةٍ شنيعةٍ، لكنه قد يغترّ بأن الذنبَ ذنبُ الواشي، وليس عليه شيءٌ من تبعةِ ذلك، ولم يدر أن النميمة لغوٌ تُنزّهُ عنه أسماع العقلاء، وهي داخلةٌ في الزور الذي مدح الله عباده بأنهم لا يشهدونه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) قال بعض المفسرين: "أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة..."، كما أن في الإصغاء إليها معونةً للواشي في التمادي فيها مستقبلاً، ودُربةً له على هذه الممارسةِ الخطيرةِ على الناس في جميع شؤونهم الدينية والمعاشية، ولو سكَّتَهُ من نُقلتْ إليه الوشايةُ في أول محاولةٍ له لانزجر عن نقلِ السوء إليه، وفي هذا تقليلٌ لهذه الظاهرة وتجفيفٌ لمنبعها، ونوعُ تأديبٍ لمن يسعى في قطعِ ما أمر الله به أن يوصل كما أن في الاستماع إليه والحفاوة به نوعاً من تكريم من لا يستحق أن يكرم.
الثالثة: يُخيّلُ إلى بعض من تُنقلُ إليهم الوشايةُ أن الواشي حريصٌ على مصلحته ساعٍ في النصح له، وليس كذلك بل العكس هو الواقع، فهو غاشٌّ له ساعٍ إلى أن يُحمِّله أحمالاً باهظةَ الثِّقَل؛ لأنه إما أن يتسبّب في قطيعةٍ بينه وبين من لا ينبغي أن يُقاطعه، وذلك ثقيلٌ على نفسِ الحُرِّ ولو تجشّمه لما ظنّه مبرراً له، وإما أن يكظم الغيظ فيطوي قلبه على شعور المظلومية الذي يصعب على كثيرٍ من الناس محوه من الذاكرة، ولو وُفِّق فلانٌ فتناساه حتى نسيه فقصارى أمره أنه نجح في اختبارٍ صعبٍ واجتاز عقبةَ ابتلاءٍ صارمٍ، وانتصر على النفس الأمارة بالسوء، وقد كان في غنى عن خوضِ غمارِ تلك المعركة النفسية لو لم يَرْمِ إليه الواشي تلك الكلمات التي عرَّضته لهذه المواقف، كما أن الوشاية لا يعتادها من يُبالي بالناس، وينبغي أن يدرك العاقل أن من ينقل إليه السوء عن إخوانه صدقا ًكان أو كذباً ينقل عنه السوء إلى الناس صدقاً كان أو كذباً، ومن أمثالهم وحكمهم: "من نمَّ لك نمَّ عليك".




http://www.alriyadh.com/1952834]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]