غبْتُ عنكَ أُسبوعَين قبل مواصلتي الإِجابة عن أَسئلتك، كنتُ خلالهما في "الرياض"، ضيفًا من أَهل البيت على أَهل البيت، تسنَّى لي خلالهما أَن أُعاين إِشراقتَين ساطعتَين: نهضة الرياض المدينة ونهضة "الرياض" الصحيفة، أَلا بُوركَ للمملكة بهاتَين النهضتَين.
سأَلْتَني قبل أُسبوعين عمَّا تلاحظُه من إِرباك في الوسَط الأَدبي، وما فيه من كثير زُؤَان وقليل قمح. وهذا طبيعيّ في كل عصر أَدبي. لكنّ هذا الإِرباك ليس ممَّن آمنوا وشقُّوا طريقهم بثبات، بل من ضِعاف الإِيمان. وبسبب هؤُلاء يتخبَّط الأَدب في كل هذا الارتباك الإِشكالي.
وأَلفتُكَ هنا إِلى أَنّ الإِشكال ليس في المضمون، فالمواضيع متوفرة ولا تحتاج استنباطًا في الشعور الإِنساني. الإِرباك هو في تَبَنّي الأَديب لمقطوعته، شعرًا أَو نثرًا، صيغةَ تعبير. فالأَدب جسَدٌ وثَوب. وإِذا الجسَدُ عطيّةُ الله، فالثوبُ من عمل الإِنسان.
رأْسُ تلك الإِشكالات في صيَغ التعبير يتجلَّى في الشعر. كثيرون من الشُعراء (وأَكثر الطالعين حديثًا على الشِّعر) خرجوا على الأُصول. والفن العالي يعيشُ أَطول كلَّما خضَع للأُصول أَكثر، فيما يَموت بالانفلات منها. الخضوع للقِيَم والمُثُل يُعْلي لأَنه نَهْجٌ يوميّ. ففي الأَخلاق، كما في الفنّ والعلُوم والطب والتكنولوجيا، كلَّ يومٍ نطبّق الأُصول ونَخضَعُ لَها كي نأْمَن البَقاء، وهكذا في الشِعر، كلَّما تشدَّدنا بالأُصول كان الشعر أَمتَن وأَبقى.
لذا أُشدِّد لك أَنَّ الإِشكالات ليست في الخضوع للقِيَم بل في الخروج عليها. وضياعُ الشكل من هويتنا الشعرية أَدَّى إِلى خَلخَلة مضمونها: حين تَقَنَّعْنا بوجهِ سوانا، تعثَّر لسانُنا وبِتنا نفتِّش عن وَجْهنا وصوتنا وأَصالة هويتنا الأَدبية. ولولا هذا الارتباك، لكُنت اليوم أحدّثكَ عن التجويد عوضَ التبسُّط في شرح التجميد. أَلَم يكُن أَنفعَ لو كنّا نبحث في جَماليّات شعرِنا المعاصر عوضَ البحث في إِشكالات هذا الشعر؟
وتأَكّدْ أَن الاشتغالَ على البشاعات يُبَشِّع صاحبه من حيث لا يدري. بينما الاشتغالُ على الجماليات يَزيد من لُمَع الجمال في عينَي صاحبه، ويَجعله بذلك يدري.
حاليّاً، في هذه المرحلة من تاريخنا الشعريّ، نَجِدُنا في حاجة إِلى إِعادة النظر في النصوص وأَصحابها، وإِلى قراءة جديدة في إِطارٍ جديد يكون هو الطريق نَحو استعادةِ هويتنا الإِبداعية وأَصالتِنا الشعرية، قياسًا على تَجربة كبارِنا في الشعر. وهذه القراءة الجديدة تُنقِذُنا من هذياناتٍ تطالعنا، تُسيءُ إِلينا وإِلى الشعر.
سأَلْتَني أَيضًا عن هذه الهالة أَسكبُها على الشعر في رهبة لافتة. وهذا صحيح. ذلك أَنني أَرى في دُخول هيكل الشعر، نعمةَ اقتبالِ واحدةٍ من أَغلى عطايا السماء. وهي نعمةٌ لا يؤْتاها إِلَّا الأَصفياء. إِنها حالةٌ نادرة جدّاً من حالات الوعي في اللاوعي. منها يولد الكلام المغاير مسكوبًا من رؤْيا ومسبوكًا في رؤْيَة شكليّةٍ ومضمونيّةٍ تَنقُلُ المتلقّي إِلى "الحالة الثانية".
وإِذا ما توفَّر لك ذلك، تَـمَسُّكَ تلك القشعريرة الجميلة التي تلذُّك من دون "لِماذا"، وتُدَغدغك من دون "كيف". وهو ذا الفعل اللامرئي في تلقِّي الشعر، إِذ إِن القصيدةَ برقٌ وميضٌ يترك فيك رعدًا كثيرًا. الشعر اختزال في التقاط هنيهة البرق. والشاعر المتمكِّن هو مَن يعرف كيف يُشعل فيك لَحظةَ البرق ويَترك لك لَحظاتِ رعدٍ تتردّد في اندهاشِك.
أَتوقَّف الآن هنا، وأَترك للخميس المقبل رحابةً جديدة "في رحاب الرياض"، أُواصل لكَ فيها زبدة خبرتي الأَدبية وتجربتي الشعرية، كي تكون لك تجربتي اختصار طريقك بلا صعوبات، وضوءًا سنيّاً ربما يقيك بعض العثرات خلال مسيرتك في طريق الأَدب.




http://www.alriyadh.com/1957954]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]