قد يختلف الناس في الاتباع والورع وقد يتفاوتون في الطاعة والتمسك بتعاليم الشريعة، لكن يبقى المجتمع المسلم هو المجتمع المسلم منسوبًا إلى التدين بكل أطيافه ومنتسبيه، دون محاولة تقسيم المجتمع بأشكاله وهيئاته إلى «متدين وغير متدين»..
فقه الإسلام قائم على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية والقياس عليها في مستجدات الحياة التي يحتاج المسلم فيها إلى البناء على حكم يلغي به عن كاهله تبعات ما يترتب على فعله من العقاب أو الثواب الأخروي، والمسلم منذ نشأته يرتبط بالتدين في كل شؤونه، ويتلقى الحلال والحرام منذ نعومة أظفاره. ولكن الذي ينبغي للمسلم معرفته لينجو بنفسه من موجات الجهل وربقة التوارث هو أن هناك فرقًا بين "التدين" وبين "تبني حكمٍ فقهي".
التدين هو سمة من سمات المسلم التي لا تنفك عنه، فمنذ أن ينطق المسلم بالشهادتين فهو في منظور العالم كله متدين، وهو كذلك في كتاب الله عز وجـل {ورضيت لكم الإسلام دينا} وليس في المجتمع المسلم ذاته متدين وغير متدين، فالمجتمع المسلم كله مجتمع متدين أصالةً، ولا معنى لتقسيمه تحت هذا العنوان الذي كاد أن يوقع بين أبناء الأسرة الواحدة فضلًا عن المجتمعات ككل.
إن غلبة المعنى العرفي على المعنى الشرعي للتدين قد خلق في نفوس كثير من الناس حالةً من النظر للنفس بعين التزكية، وهو ما لم يكن معروفًا في مجتمعات السلف رحمهم الله، حيث لم تكن هناك ادعاءات لا بلسان الحال ولا بلسان المقال بالتميز بِسِمَة التدين بالمعنى الذي عرفته المجتمعات هذه الأيام، نعم، كان هناك تنوع فقهي، وانتساب فقهي، لكن لم تكن تلك المصطلحات تنفي الانتساب للتدين عن الآخرين، كما أن تلك المجتمعات أيضًا وجد فيها من يقترف المعاصي، ويعرف بالشهوات، ولم يعرف عن السلف أنهم "حصروا أهل التدين بالمعنى العرفي، في طائفة معينة"، ليكونوا هم بلسان الحال أو المقال من يحق له دعوى التدين دون غيره من الناس.
لقد عُرف بالمنظور الشرعي منذ بعث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بدين الحق أن من أمته من يقع في المعصية كما أن من أمته من يغالي في دينه، وكلا الطرفين قد أمره الله أن يتأسى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يتميز بلباس ولا بهيئة لمعنى إظهار التدين، بل كان يلبس ما يلبسه العرب، ونهى عن بعض المخالفات في الآداب واللباس عمَّ بها كل أمته، حتى حصلت بعض التجاوزات، وبدأت بعض الفرق المنتسبة للإسلام تتميز بلباسها وهيئاتها بما يشعر ويوحي بتميزها تدينًا عن سائر الأمة من المسلمين، وهذا ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا صحبه الكرام، رضي الله عنهم، ثم توسع الأمر وخرج عن تلك الجماعات والفرق حتى طال بعض المنتسبين للعلم والفقه، فشرعوا في التميز في اللباس والهيئات، حتى أشعروا الناس أن هذا هو الدين وأن ما يخالفه إنما هو من تتبع الشهوات وتمييع الإسلام، ثم حصلت الانقسامات في المجتمعات المسلمة انطلاقًا من هذا العنوان، وتكتلت الجماعات، وانتسب الأفراد إلى المشايخ والجماعات من هذا المنطلق، بينما لم يكن شيء من ذلك في العصور التي ثبت عليها بناء الإسلام، وانطلقت منها الدعوة إليه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الصحيح عن أنس بن مالك، قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ... الحديث"وفي التنزيل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
نعم قد يختلف الناس في الاتباع والورع وقد يتفاوتون في الطاعة والتمسك بتعاليم الشريعة، لكن يبقى المجتمع المسلم هو المجتمع المسلم منسوبًا إلى التدين بكل أطيافه ومنتسبيه، دون محاولة تقسيم المجتمع بأشكاله وهيئاته إلى "متدين وغير متدين". هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1965321]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]