الإنسان في معاملاته مع البعيد والقريب قد تعرض له مواقف يُؤذَى فيها أو يكون مظلومًا، فتتاح له فرصة الغلبة والانتقام، حتى مع أقرب الناس، وإذا فعل فقد لا يكون ملومًا، لكنه لم يسلك المسلك الأسمى..
في تاريخ الإسلام للذهبي: "عنْ أبِي بكر بن عياش قال: قيل للبطّال: ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة". وللبطال هذا سيرة عطرة من الشجاعة والإقدام، ولكن نقتطف العبارة من كلامه ليس فقط في الحرب ووعظ الجند، وإنما هي عبارة تؤسس لكل نجاح، ولكل نصر، فالحياة كلها تحتاج إلى صبر، بل إن بعض نواحي الحياة تحتاج صبرًا أشد من صبر الفرسان، وشجاعة أعظم من شجاعة الشجعان، وقد قال الله في القرآن بعد ذكر امتنانه على نبيه بإنزال الوحي عليه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»، فطلب منه الصبر على آثار هذه المنحة العظيمة من الله، وفي مقام معاداة قومه له - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ»، فليس كل الخصومات والعداوات تقابل بردة الفعل الأعنف، فالصبر وقعه عظيم، والنصر مع الصبر.
كانت تلك سيرته صلى الله عليه وآله، فكم رويت آثار من أذية المشركين وأهل الكتاب والمنافقين له صلى الله عليه وآله؟! قابلها بالصبر والعفو والسماح، وقد أُعطي فرصة للعقاب مرات كثيرة، فكان صبره مقدمًا على عدله، فحين أرسل الله له ملك الجبال بعد عودته من الطائف حيث قابله المؤذون والسفهاء بالرجم، قال له ملك الجبال، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين؟ فقال لا، ولكني أرجو أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، فكان صبره تلك الساعة هو بذرة ما نراه اليوم من الملايين بل المليارات من أمته صلى الله عليه وآله، وكم أسلم من الأحبار والرهبان لما رأوا ما أودع الله فيه من صبر على خصمه، ومن إحسان لمن أساء إليه، فهو صلى الله عليه وآله وسلم كما تصفه عائشة: "كان قرآناً يمشي على الأرض"، وفي القرآن الذي أنزل على قلبه: «وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»، وكان ذلك ممزوجًا في أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح قال صلى الله عليه وآله: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، فالإنسان في معاملاته مع البعيد والقريب قد تعرض له مواقف يؤذَى فيها أو يكون مظلومًا، فتتاح له فرصة الغلبة والانتقام، حتى مع أقرب الناس، وإذا فعل فقد لا يكون ملومًا، لكنه لم يسلك المسلك الأسمى، وفوّت على نفسه فرصة النصر، وحين أصبح يوسف عليه السـلام في أعلى هرم الحكم في مصر، وجاءه إخوته منكسرين، قد ظفر بهم وتذكر ما فعلوه به، ليس لينتقم منهم وإنما ليقول لهم: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، انتهى وأنهى كل شيء يذكره بماضيه الأليم معهم، وهو ما يُروى أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلـم فعله حين فتح مكة، وجاءه رؤوس قريش ظانين أنه جاء معاقبًا منتقمًا، وقد تذكروا ما فعلوه به وبأصحابه في الرمضاء من تعذيب وتهجير، وما فعلوه بهم في أحد، فقال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وهذا يرويه بعض أهل السير، وأما تسمية "الطلقاء" فهي ثابتة في السنة الصحيحة وتشهد لهذا الأثر، ويشهد له غيره من الآثار والمواقف التي تروى عنه صلى الله عليه وسلـم، من العفو والحلم والصبر، سواءً مع أعدائه ممن حاربوه ووقفوا في طريق دعوته، أو مما يواجهه أثناء حياته صلى الله عليه وآله وسلـم، من الأعراب والمنافقين وأهل الكتاب، فكان صلى الله عليه وآله سيد الصابرين، وقدوة الكاظمين الغيظ، وأسوة العافين عن الناس، ولا جرم، فقد قال الله له: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1971133]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]