من أسباب تطويل المتطفل للسانه في لوم العاملين، ثقته بخيالاته وتصوراته، بحيث يظن أن رؤيته المبنية على رجم الغيب والمجازفة أدق من رؤية من يُباشر المهمة، ويبذل فيها طاقته، وقد تكون هذه الثقة قناعة له بغض النظر عن كونها زائفة..
يحملُ حبُّ الذات كثيراً من الناس على استصغارِ كل دورٍ لم يتولوه، وكثرة النقد لكل من قام بمهمة قعدوا عنها، فيكون أول أسباب التقليل من شأن العمل أن يتولاه غيرهم، ومن طُبِعَ على هذا الخلق المقيت لا يكاد يرضى عن ذي إنجاز، أو يعترف بكفاءة ذي كفاءة، كما أن من ابتُلي بهذا الشعور الغريب قلّما يستطيع السيطرة عليه ودفنه في أعماق قلبه، بل يطفو على فلتات لسانه، فيحمله على تسليط سياط الملامة على من يبذلون الغالي والنفيس في سبيل الأعمال التي يعود نفعها عليهم وعلى غيرهم، بما في ذلك هذا اللائم الناقد بلا وجهٍ معقول، ولا يستقلُّ أحد هؤلاء جهداً لغيره حرصاً على أن ينتبه صاحب الجهد، فيكتشف مكامن التقصير، ويُصلح الخلل، ولا يلوك النقد لغرض تقديم الحلول الكفيلة بتفادي الأخطاء فيما ينتقده، بل منطلقه الأنانية وضبابية التصور وسطحية التفكير في أحسن أحواله، والغالب أنه لا يخلو من مآرب أكثر إيغالاً في السوء والحقد، ولي مع الصخب على المجتهدين وقفات:
الأولى: محاولة عرقلة مسيرة النجاح من الأسباب التي تُلجئ بعض الناس إلى التسوّر على ما يجهله، والتشويش على الناس في مهماتهم، والتقليل من شأن أعمالهم، وتجاهل الإنجازات بالمرّة، وشدة التركيز على الصعوبات والعقبات التي لا بد لمن يسلك طريق النجاح من مكابدتها، ثم لا يكتفي هذا اللائم المشوش بمجرد تضخيم الصعوبة المعينة، بل يتعدى ذلك إلى زعمه أنه لو كان هو السالك لهذا الدرب لتفاداها، أو دعوى أن السالك لو استشاره لجنبه المأزق، وما درى أن العقبات المعترضة للناجحين والعاملين مفخرةٌ لهم، وعلامةٌ فارقةٌ بين أهل الهمم العالية وبين غيرهم، وليس من مصلحتهم أن تصبح معدومة؛ إذ هي صيقل التجارب وملمع معدن الرجال، أما ما يتبجح به ذلك المتسور من راحته وبعده عن مكابدة النصب ليس ناشئاً عن كونه بصيراً بأساليب تجنب المضايق، بل لأن المضطجع الـمُخلِد إلى الأرض لا علاقة له بمتاعب الرحلات أصلاً، فهو في حلوله التي يحاول التبرع بها على المثابرين بمثابة من لا يغادر منزله، ويُحاولُ أن يزود المسافرين بتفاصيل الطرق النائية، وقد نعى الله على المنافقين بعض هذه الأساليب السلبية التي تنمُّ عن ضعف في العزيمة وغلٍّ للمجتمع، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
الثانية: من أسباب تطويل المتطفل للسانه في لوم العاملين ثقته بخيالاته وتصوراته، بحيث يظن أن رؤيته المبنية على رجم الغيب والمجازفة أدق من رؤية من يُباشر المهمة، ويبذل فيها طاقته، وقد تكون هذه الثقة قناعة له بغض النظر عن كونها زائفة، فإن التصورات الخاطئة إذا استرسل فيها الإنسان رسخت في نفسه وتحولت إلى قناعة، وقد لا تكون تلك الثقة قناعة بل يُشوِّشُ على الناجح في محاولة منه أن يُوحي إلى الآخرين بأنه لا يعترف بأهمية ما يفعله العامل، وإن كان في قرارة نفسه موقناً بأنه على الجادة المستقيمة، وأخطر ما يمكن أن يصل إليه هذا النوع من التشويش أن يكون متوجهاً إلى رجال السلطة، وفي مقدمتهم قيادة الدولة، فإن إشاعة لوم القيادة والتشغيب عليها بالنقد تطفُّلٌ على مهماتٍ عالية الدقة عظيمة الثقل، تنوء بخواصِّ الرجل، وكم من متطفلٍ يُثرثر فيها وهو ليس أهلاً للإشراف على بقالةٍ صغيرةٍ، وما أجدر من حاله هكذا بأن يُهمس في أذنه بقول الشاعر:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا.
الثالثة: من مشاكل التصدي لنقد من يبذل الجهد في شؤونه أو في شؤون العامة أن هذا الناقد يشتغل بما لا يعنيه فيُضيّع ما يعنيه، وهاتان حالتان لا يمكن المكلفَ أن ينفك عن إحداهما، فإن اشتغل بما يعنيه كفَّه ذلك عما لا يعنيه على حسب إقباله على شأنه، وإن اشتغل بما لا يعنيه ضيَّع بعض شؤونه على حسب تطفله، ولو نظرنا إلى من يتطاولون على دولهم ويشقون عصا الطاعة ويسلُّون سيوف النقد على الدولة لوجدنا أنهم أخلّوا بواجبهم المتمثل في السمع والطاعة لولاة أمورهم، واحترام النظام، والحرص على السلم الاجتماعي، ومراعاة بقاء لحمة المجتمع، وتلك أمور جليلة القدر لكنها ميسورة على من بقي على سلامة فطرته، ولم يتلوث فكره، وتجد مفتوناً لم تطاوعه يده على التمسك بغرز الجماعة، وعوضاً عن ذلك تصدى للكلام في أمورٍ من الشأن العام الذي ليس في مستوى التفريق بين ما ينبغي منها وما لا ينبغي.




http://www.alriyadh.com/1985192]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]