المكان في ملعب الكرة هو أرض الملعب، والنص هو ما يدون من قواعد وشروط يحفظها المتلقي مكتنفا بذلك الصراع الدائم والذي هو عماد العرض المسرحي وما يحفه من توتر، وأفق انتظار، وترقب، لكن تظل هناك خاصية جدلية في قضية الممثل والذي يسمى في تراثنا العربي اللاعب، فاللاعب في كرة القدم هو يلعب بشخصه وليس الدخول في إيهاب شخصية أخرى وهنا تبدأ القضية!..
بمناسبة هذا التوتر العالمي أمام شاشات البث المباشر ولهفة الجماهير وآهات الحناجر المنطلقة، أتذكر المسرح، في نوع من الأسى وقد نقول الغيرة المشروعة والمحفزة لما هو أفضل، نوع من المقاربة شديدة الالتصاق بين ملعب الكرة وبين المرزح والمسرح، فكلاهما ذات العناصر والتي قيل أنها إذا ما توافرت كان هناك هناك مسرح وهي (مكان، مشاهد، نص، وممثل).
وذا ما ناقشنا بعض هذه المفردات والتي تناولناها في مدرج الجامعة تحت سؤال ملح هو: هل لعب كرة القدم يعد مسرحاً؟
قضية شائكة ومليئة بالجدليات والتحولات، بالرغم أن كليهما تكتنفه هذه العناصر، ولكنها شروط مهدرة على عتبات التقنية المسرحية، فالمكان في ملعب الكرة هو أرض الملعب، والنص هو ما يدون من قواعد وشروط يحفظها المتلقي مكتنفا بذلك الصراع الدائم والذي هو عماد العرض المسرحي وما يحفه من توتر، وأفق انتظار، وترقب، لكن تظل هناك خاصية جدلية في قضية الممثل والذي يسمى في تراثنا العربي اللاعب، فاللاعب في كرة القدم هو يلعب بشخصه وليس الدخول في إيهاب شخصية أخرى وهنا تبدأ القضية.!
لقد طُرحت النظريات التي تبحث عن هوية عربية للمسرح تحت مسمى (نحو تأصيل مسرح عربي) والتي كانت من كبريات القضايا العربية في المسرح فظهرت لنا دعوات الاحتفالية في المغرب، ودعوات توفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم في مصر بمحاولة تأصيل لمسرح عربي، وذلك من وجهة استلهام التراث الشعبي في الألعاب الشعبية مثل السامر والحكواتي والزار وغير ذلك، وكان من أهم ما جاء في هذه الدعوات هي مشاركة الجمهور في اللعب المسرحي والذي لم يتأتى له النجاح نظرا للتربية الذهنية التي ترسخت في وجدان المشاهد العربي وارتباطه بالثقافة المسرحية الغربية كمنتج تلقاه لأول مرة على أن هذا هو المسرح ، فحاول صناع المسرحية وضع الممثلين بين المشاهدين للمشاركة من مكان المشاهد عل ذلك يحقق ما يراه دعاة (نحو مسرح عربي) لكن باءت المحاولات بالفشل مع كثرة تكرارها.
فإذا ما رأينا هذا التطابق في العناصر بين كرة القدم وبين المسرح، فما الذي يجعل ساحات وميادين العالم تكتظ بالمشاهدين وتتنافس الدول وتنفق المليارات في فضاء هذه اللعبة الساحرة ؟ ولماذا يُقزم المسرح وتنحصر حدوده في نظريات وتثاقف وجمهور محدود، بالرغم من أن السحر المشروع هو ملكية خاصة للمسرح وبالرغم من أن كليهما يتمتع بخاصية (هنا والآن) والتي لا يتمتع بها غيرهما في جميع فضاءات الإبداع والتلقي؟!
وإذا ما دققنا النظر في ذلك الفرق الجوهري بين لعب كرة القدم وبين العرض المسرحي، فسنجده في مشاركة الجمهور في اللعبة، ومن هنا نستلهم ذلك الشرح الذي كان ينادي به دعاة نحو مسرح عربي؛ فاللاعب لديهم وبحسب تنظيراتهم هو كلاعب اللعبة الشعبية في ليالي السمر، والأهم من ذلك هو الإتفاق؛ أي أن الممثل في هذه الدعوات لا يمثل بل يتم الاتفاق على اللعبة بينه وبين الجمهور بأنه يلعب ولا يمثل؛ ومن هنا يبدأ في رزحه (لعبه) على أرض ملعبه بشخصه هو وهو يلعب الشخصية وليس بشخصية أخرى يتقمصها ومن هنا تأتي مشاركة الجمهور بالحضور الوجداني نحو ما يفعله اللاعب بشخصه هو ذاته، فيكون المشاهد حينها حاضر الذهن متيقظ الوعي وهو أهم مافي الأمر ، فلا اندماج ولا دخول في عوالم سحرية أخرى وهو كذلك في عالم كرة القدم ، فالحضور الواعي -المتيقظ- والذي انتهجه المخرج الألماني (برتولت بريخت 1898- 1956) مستلهما إياه من تراثنا الشعبي كان لتثوير المتلقي، هذا الوعي المتيقظ وتلك الإتفاقية بين الجمهور واللاعب عند بريخت هي ما نجد بعض ملامحها في رياضة كرة القدم والتي تصنع لنا هذا التثوير وتلك الصيحات والآهات المشتعلة في فضاءات الملاعب والممتدة خارج الملاعب في مجالسنا أينما تواجدنا
إن سر تأصيل المسرح لدى اليونان والرومان هو ذلك الاتفاق غير المبرم بين المتلقي والمرسل بأن ما يحدث في أرض المسرح (هو ملعب كملعب كرة القدم بطبيعة الحال) هو اتفاق بأن كل ما يجري أمامهم هو لعب بشخصيات افتراضية يفترضها المؤلف، لكنها تظل افتراضية يلعبها اللاعبون والدليل على ذلك هي تلك الأقنعة الضخمة التي يرتديها الممثلون مما يحول تلك الشخصيات إلى أنماط تلعب الأدوار فلا ملامح لها تظهر انفعالاتها، وإنما ذلك الإتفاق بأن هذه الشخصية هي شخصية منحوتة في أذهان المشاهدين مثل زيوس عند الإغريق وجويبتر لدى الرومان وديونوسيوس وهيرا والمدعم بالسرد والتعليق من قِبل الجوقة لإلهاب حماس المشاهدين تجاه عقائدهم المتوفرة في تلك العروض تجاه آلهتم.
وبحسب نظريتنا البعد الخامس في التلقي نجد أنه يتوفر في لعب كرة القدم تلك المحاور التي تشكل البعد الخامس وهي (العقيدة، السرد، إثارة الخيال) كل هذه الأقطاب الثلاثة تتحد معا فيما بينها لتعمل على -مايطلق عليه- التسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني في علم النفس، وكأن البعد الخامس الذي تمخضت عنه النظرية يطبَّق في ساحات الملاعب ولذا تلتهب الوجدانات عبر هذه المحاور، فالعقيدة هنا هي تلك الوطنية والولاء للأوطان، والسرد هو كل أليات اللعب المباغتة والمرتبطة بالترقب والتوتر والانتظار وتعليق المعلقين، كما أن إثارة الخيال هي ما يشارك به المتلقي من مشاركة وجدانية في صنع اللعبة والتي لا تتأتى عن طريق ممثل مسرحي يدخل في إيهاب شخصيات مكتوبة بل هناك اتفاق غير مبرم بأننا نلعب سويا في صراع محموم وننتظر النتائج.!
وهذا هو سر تفوق كرة القدم على المسرح مهما حاولت النظريات تأطير آفاقه - إذا ما أردنا مسرحا يكتظ بالجماهير كما تكتظ بها ساحات الملاعب أن نتبع تلك القواعد التي تكتنف الفرجة المسرحية وأدركتها كرة القدم.




http://www.alriyadh.com/1985361]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]